زيف الموروث يغنينا !

المصريون مطالبون دائما بدفع ثمن أخطاء حكامهم السابقين، والتضحية بحاضرهم من أجل مستقبل لن يدركوه. وأصبح التغني بالحضارة والريادة وعظمة الشخصية المصرية وقدرتها على التحمل والتضحية والفداء أسلوبا للحكم لا يتغير من حاكم لأخر، ويجعل من مسائلة الحاكم عن الحاضر سؤالا في غير محله.
وكثيرا ما كنت أسأل نفسي كيف استفاد المصريون من كونهم أصحاب أقدم وأزهي حضارة عرفتها التاريخ؟ ما الذي يميز المصريين لأن دولتهم سبقت العالم منذ قديم الأزل في تطبيق كافة أشكال أنظمة الحكم وفي استخدام الكتابة والألوان والفنون والعمارة والبناء وفي اختراع علوم الطب والفلك والملاحة والرياضيات والعلوم والهندسة والري والصناعة؟ ما الذي يجعل المصريين يشعرون بالريادة لأنهم يعيشون في بلد تسابقت دول العالم القديم على التواصل والتمازج معها والاستفادة منها والتأثير فيها، وحرصت شعوب دول العالم الحديث على زيارتها والتغني بأثارها والتمتع بتراثها وشمسها وشواطئها والاختلاط بشعبها؟ 
في الواقع أن المصريين لم يهنأوا بهذه الريادة ولم يستفيدوا منها خلال معظم تاريخهم الذي تعدي 5000 سنة.
فقد عاش المصريون تناقضا شديدا بين سبق الوطن الحضاري وتعرضه المستمر لتهديدات وأطماع قوي خارجية غزتها واحتلتها واستغلت مواردها وثرواتها.  ولم يكن الحكام من أبناء الوطن أقل استبدادا من أقرانهم الأجانب. كما أن عصور النهضة التي عاشتها مصر في فترات من تاريخها لم تنعكس بشكل حقيقي على رفاهة شعبها. وبالرغم من أن المصريين هم من بنوا الأهرامات وأقاموا المسلات ونقشوا التاريخ الفرعوني على جدران المعابد، وحاربوا الهكسوس والفرس والفرنسيين، وحفروا قناة السويس، وبنوا السد العالي، وحطموا خط برليف إلا أن حياة الغالبية العظمي منهم عبر تاريخ مصر الطويل طالها الظلم والحرمان والإهمال والاستغلال.
والحقيقة أن الكثيرين من الذين كتبوا التاريخ من أبناء هذا الوطن كانوا يزيفون تأثيره علي حياة المصريين حيث كان اهتمامهم منصبا على تمجيد الحكام أو تحقيرهم تبعا للعصر الذي يكتبون فيه وهوي الحاكم الموجود في السلطة. ولم يدرك المصريون حقيقة تاريخهم إلا مع بداية عصر تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والمعرفة في فترة التسعينات من القرن العشرين، والتي شهدت تحولا كبيرا في إتاحة المعلومات والمعرفة وأصبح المواطن قادرا على البحث عن الحقيقة وليس متلقيا للزيف والكذب. وفي رأيي أن أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى سقوط نظام مبارك هو تزايد الإدراك المعرفي للمصريين لما حدث ويحدث في مصر بالمقارنة لم يحدث في كافة أرجاء العالم مما أشعرهم بحجم القهر الذي يعيشونه وبسبل تحرر شعوب أخري من استبداد حكامهم. وتخيلت بعد أن تحرك المصريون لإسقاط مبارك أن ما حققه التطور التكنولوجي في السنوات الأخيرة من إتاحة الاتصال والمعلومات والمعرفة للإنسان قد أغلق الباب نهائيا على قدرة الحكام وأنظمتهم على تزييفهم للحقيقة واحتكارهم لمصائر شعوبهم.
وتصورت أنه قد أن الأوان لأن يتحرر الشعب من زيف الموروث، وأن يدرك حتمية بحثه عن حقوقه واختياره لمستقبله، وأن يبادر من خلال فهمه الواعي لما يريده بالالتفاف حول قيادة وطنية تملك الإرادة لخدمة جموع الشعب، والطموح للارتقاء بقواعده، والقدرة على العمل لنهضته، وأن يفهم أن التحول المنتظر من نتاج الثورتين لن يتحقق من خلال البحث عن منقذ جديد للبلاد، بل من خلال إسناد مهمة القيادة لرئيس عازم على إدارة منظومة هائلة من المشاركة الشعبية الجادة باختلاف تخصصاتها ومهاراتها وقدراتها وشرائحها ومسؤولياتها وواجباتها تعمل في إطار مؤسسي يحقق الشفافية والمشاركة في الحكم والرقابة الشعبية، وفي نطاق تشريعي يحقق العدل والإنجاز، ويتيح الحقوق لأصحابه، ويفرض الواجبات على كافة أفراد المجتمع، ويفرض النظام والقانون على الجميع.
وبالرغم من قناعتي حينما تم انتخاب الرئيس السيسي لإدارة البلاد بأنه يملك أكثر من غيره أدوات التغيير والإصلاح، إلا أن أبواق الإعلام والانتهازية السياسية والاقتصادية والأمنية تمكنت من تحجيم طموحاته وإرادته ليصبح على غرار من سبقوه بعيدا عن التفهم الدقيق لمتطلبات شعبه الراهنة باختلاف شرائحه وفئاته.
وأتذكر خلال حكم مبارك، أن هناك من كانوا يطالبونه الإصلاح. واستوقفني تعليقا للدكتور مصطفي الفقي حينما استضافته إحدى الجامعات الخاصة لإلقاء كلمة بمناسبة حفل تخرج دفعة من طلابها في عام 2004 عما يقصده بالإصلاح فأجاب أن الإصلاح يأتي من اهتمام الدولة بتحسين أداء الإنسان. وقد استوقفني كثيرا هذا التعريف، وحاولت وقتها أن أبحث عن فترات في تاريخنا اهتم فيها الحاكم بهذا التوجه في تعريف الإصلاح، فلم أجد شيئا. وتبين لي أن الاهتمام بتحسين أداء الإنسان المصري لم يكن أبدا من ضمن أولويات الحاكم منذ عهد مينا موحد القطرين حتى وقتنا هذا، لدرجة أني وجدت تشابها كبيرا بين العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر والعلاقة بين توم وجيري في أفلام الكرتون، وكأنها علاقة مستدامة لا نهاية لها حيث يطارد فيها القط الفأر لاصطياده ولكن دون أن يفتك به، في الوقت الذي يصارع فيه الفأر خوفه من القط ويلجأ للكثير من الحيل للفرار منه، ولكنه حتى وإن تمكن من النيل منه، يهرب منه ليبدأ القط مطاردته مرة أخري.
وفي رأيي أن شعور المصريين الدائم بالنشوة لكونهم أصحاب الحضارة والتاريخ هو نتاج ترويج متعمد من الحكام ومؤسساتهم الثقافية والإرشادية والتعليمية والإعلامية لكي يلتهي الشعب بالتخيل والاستمتاع بتاريخ لم يشاهده، وبالتعلق والتملق بماضٍ لم يعشه، وبالانصراف عن المطالبة بحقه في حاضر أفضل. والواقع أن تلك نشوة ممتزجة بالقمع، حيث يسمح للمصريين الاستمتاع بحكايات الماضي المزيف والتشوق لرؤي مستقبلية واهمة، إلا أنه لا يسمح لهم بالمطالبة بحقهم في الحاضر.
وللحديث بقية ........

التعليقات