لنبدأ بالكشف عن أنفسنا

بالرغم من تضمن خطاب الرئيس السيسي في بداية توليه الكثير من المصارحة للمعوقات والتناقضات في أداء وسلوكيات الإنسان المصري في المرحلة التي نعيشها. إلا أن محاولاته لم تستكمل من جانب مؤسسات الدولة والمجتمع المدني للاعتراف بها، وإدراك أسبابها، والدعوة لمواجهتها، والعمل على تغييرها. وكم كنت أتمنى أن يكون الرئيس أكثر حسما في المكاشفة والمواجهة كأولي خطوات الشراكة الحقيقية لبناء الوطن. إلا أنه اختار بعد فترة وجيزة الاعتماد على القوات المسلحة في القيام بمشروعات لتحسين البنية التحتية وعلى الأجهزة الأمنية والرقابية لتسيير أمور الدولة والمجتمع. وليس مبررا أن يكون السبب لهذا الاختيار هو تقاعس القاعدة الشعبية ونخبها والجهاز الإداري للدولة عن قبول الحاجة للتغيير.
المصريون يغلب عليهم التأثر بالقدم عن الحداثة، وهم أشد من غيرهم في مقاومة التغيير. ويرجع هذا في رأيي نتيجة لإغفال الحكام المتعاقب الاهتمام بتحسين حال الإنسان المصري، وهو ما أجبر معظم أفراد الشعب على الاعتماد على المتاح لهم من تجارب الماضي. ولم تهتم الدولة طوال تاريخها باستخدام مناهج قياس الأداء، وتحديد معايير التحسين، والاستفادة ببرامج التنمية والتدريب، وتطبيق العوامل المحفزة له. وما ذكره جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر" يمثل في رأيي أصدق ما يمكن وصفه لشعب عزلته الدولة عن فرص التحسن في حين أنها تسعى اليوم لأن يتصدر هذا الشعب ثورة البناء، حين كتب " فنحن كشعب لا نحب فقط أن نمجد ونطري أنفسنا بحق وبغير حق، ولكننا أيضا نحب أن نسمع عن أنفسنا ما يرضينا ويعجبنا أو يرضي إعجابنا بذاتنا الوطنية وبشخصيتنا القومية. بل إننا لنكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا ونرفض بإباء أن نواجها أو نواجه بها. ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة علي وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا ونلصقها بها، وأيما رذيلة أو عيب فينا فلا محل لها لدينا من الإعراب أو الاعتراف، وإن اعترفنا بها على مضض واستثناء فلها عندنا العذر الجاهز والمبرر والحجة المقنعة أو المُقنّعة".
وقد يكون عدم رغبة المصريين في التغيير سببه قناعتهم أن مصر يحرسها الله، أو لعدم خشيتهم من عواقب مرور العمر والزمن وقناعتهم بفناء الدنيا وخلود الأخرة، وقد يكون أن شقاء وكفاح المصريين عبر تاريخهم قد أكسبهم درجة عالية من الصلابة تعينهم في تحملهم للصدمات وتصعب من التأثير البشري عليهم وعلى سلوكياتهم ومعاملاتهم ومعتقداتهم.
والادعاء بأن المصريين عاشوا حياة مستقرة هو ادعاء مغلوط. فهم من سكنوا الجبال والهضاب واحتموا في الكهوف معتمدين في توفير غذاءهم علي الصيد وجمع البذور لعشرات الألاف من السنين. واضطروا إلى النزوح إلى وادي النيل بحثا عن المياه بعد أن عانوا لعصور طويلة من الجفاف. ولم يكن ارتباط حياتهم بنهر النيل حميما. فحينما يفيض النيل سنويا كان يغرق الأراضي ويدمر المساكن وتخرج عليهم التماسيح لتفتك بهم. وكان المصريون يصبرون على تلك الكوارث السنوية ويتحملون تبعاتها.  وأدرك المصري القديم أن المجتمعات الصغيرة لا تستطيع مواجهة أخطار النهر وتهديدات النازحين الجدد الفارين من تزايد التصحر والجفاف. لذا جاء انصياعهم للحكومة المركزية القادرة على توفير الحلول الشاملة للتحكم في منسوب المياه وتحديد دورات الري وتوزيع الحصص على طول النهر، واعتمادهم على جيش قوي يدافع عنهم في مواجهة النازحين والطامعين في الأرض وخيراتها.
وقد اتفق علماء الاجتماع على العديد من الصفات للشخصية المصرية مثل الصبر والقدرة على تحمله الكثير من الشقاء والعناء في العمل، وبتمسكه بأرضه وموطنه واستعداده الموت للدفاع عنهما، وحرصه الزائد على كرامته واحترامه للسلطة وللكبير، وكرمه وحسن استقباله لضيوفه، وحفاظه على صلة المودة بجيرانه، وتقديمه العون للأخرين سواء كان قريبا أو غريبا، ومشاركته الغير في أفراحهم وأحزانهم. كما استمد من اضطراره مواجهة الظلم القدرة على استخدام الذكاء الفطري للإنسان لإيجاد الحلول والتنفيس عن نفسه، فتزايدت عنده الرغبة في السخرية والإضحاك والترفيه عن نفسه وتعاطي المخدرات أحيانا، واستهواء الطرب والرقص.
وارتبط المصريون منذ القدم بفلسفة التوحيد والإله الواحد، لذا كان قبولهم سهلا للأديان السماوية الثلاثة التي تعاقبت على عقائدهم وأساطيرهم وانعكس ذلك في حبهم للقديسين وأل البيت والأولياء وفي التبرك بالأضرحة واهتمامهم ببناء وزيارة المعابد والكنائس والمساجد، واحتفالهم بالأعياد الدينية، واستخدامهم للعبارات الدينية كثيرا في حياتهم اليومية وجهرهم في الاتكال الدائم علي الله وحمدهم له في كل ما يحدث.
إلا أن هناك من الباحثين من وجد دلالته في استسلام المواطن المصري لأهواء الحاكم ولأوامر الجيش، وفي نفس الوقت توجسه وتشككه في تعامله معهم وعدم تقبله لإتباع القواعد والنظم والقانون ومظاهر الحداثة والتطور باعتبارها مؤثرات مفروضة عليه، وأن سكوته عن الظلم مبعثه التصاقه بفكرة قبول البلاء في الدنيا مقابل الإنصاف في الأخرة. وقد أدي فقدانه الأمل في تحقيق أحلامه في الدنيا من خلال العمل والجهد إلى التواكل بدلا من التوكل علي الله مما أشاع الكسل وعدم الرغبة في تحمل المسؤولية. وبالرغم من مظاهر التدين عند المصريين، فالمصري غالبا ما يتبع مسالك غير أخلاقية للتنافس مع غيره، مثل الكذب والرياء، وتفضيله الوصول إلى الهدف بأقصر الطرق وأقل مجهود وبالمخالفة للقواعد والنظم، ويصف العامة صاحب هذا السلوك بالفهلوي، مما يجعله أكثر إيثارا للعمل الفردي عن العمل الجماعي الذي غالبا ما يفرض علي فريق العمل الشفافية والمصارحة والمنهجية. كما تتسم الشخصية المصرية بتدخلها في شؤون الغير، وعدم مراعاتها لخصوصيات الأخرين، وربط سلوك المرأة ومظهرها بشرف الرجل، وفرضها العديد من الموروثات الاجتماعية والثقافية على حقوق الأخرين. كما أن المصري عاطفي ولكن حينما تسلب عاطفته يصبح فظا ويائسا.
ومن الخطأ تحميل ثورة يناير 2011 مسئولية تفاقم السلوكيات السلبية على حساب الجانب الإيجابي للشخصية المصرية والذي أصبح نمطا للتعامل في الشارع المصري. فما نشهده اليوم هو رد فعل للكرب الشديد الذي أصاب المصريين طوال أربعين عاما مضت في ظل تفشي معدلات الفقر والجهل المرض والبطالة والفساد وانتشار المجتمعات العشوائية وتقاعس دور الدولة واختفاء الأمن العام وغياب الطبقة الوسطي، وهو ما يجعل لزاما على القيادة السياسية الحالية أن تضع مهمة إعادة بناء الإنسان والمجتمع المصري على رأس أولوياتها ومهامها من خلال العمل الجاد لفهم دوافع الشخصية المصرية وإحداث التهيئة الثقافية والمعنوية للتغيير.
وللحديث بقية ..........

التعليقات