ازدراء الأديان ومحاكم التفتيش

تم ادراج المادة 98 من قانون العقوبات، والتي تضمنت لأول مرة جريمة ازدراء الأديان، في عهد السادات لتجريم استخدام أي دين لسب دين أخر بعد أن استخدمت الجماعات الإسلامية منابر المساجد للإساءة للدين المسيحي. ولم يقصد المشرع وقتها أن يستخدم الأزهر تلك المادة لخلق سلطة دينية لم يقرها الدستور أو القانون أو أن يستغلها أصحاب قضايا الحسبة الباحثين عن الشهرة والمال لترويع وقمع المفكرين والكتاب والفنانين والصحفيين والنشطاء. وقد لا تكون من دوافع الصدفة أن تتوافق محاولات حبس أصحاب الرأي الأخر أو المعارض بحجة ازدراء الأديان مستغلا حساسية المصريين تجاه عقائدهم الدينية. إلا أن المصريين قد عبروا عن رفضهم للسلطة الدينية في 30 يونيو، وعلي الدولة أن تتوقف عن نهج الرقص على السلالم فيما يخص مدنية الدولة وأن تضع حدا لقضايا الحسبة وتدخلات الأزهر فيما لا يخصه دستوريا وقانونيا.
والحقيقة أنه لا توجد أية علاقة بين ارتباط المصريين الوثيق بالدين، المسلمين منهم والأقباط، ودرجات التدين أو مدي التزام الفرد أو المجتمع بتعاليم الدين أو القيم الأخلاقية أو الخلفية التعليمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية للأفراد. وحتى حينما وفدت الثقافة الإسلامية إلى مصر خلال الفتوحات وضح تأثرها بالتراث المصري الشعبي وعاداتهم وتقاليدهم واحتفالاتهم وابتهالاتهم الدينية واعتدالهم في تقبل الثقافات المتنوعة والتمازج معها. واستطاع المصريون من خلال احتوائهم للتعددية الثقافية أن يتجنبوا الدخول في أية صراعات دينية ومذهبية فارقة وقعت فيها بعض المجتمعات الإسلامية الأخرى. والتيارات السلفية كانت موجودة في مصر منذ العصور الوسطي وكان تأثيرها محدودا ولم يمثل إنشائها تهديدا للثقافة الإسلامية في مصر. والغالبية من الشعب المصري لا تعبأ بفكرة فصل الدين عن الدولة، وإنما اهتمامهم ينحصر أساسا في عدم المساس بعاداتهم وتقاليدهم خاصة فيما يخص المقدسات.
ولم تكن مصر دولة دينية إلا خلال العصرين الفاطمي والأيوبي منذ عام 969 حتى عام 1250. أما غير ذلك فقد خضعت خلال فترات من تاريخها لحكم أنظمة وعواصم خارجية من ضمنها الخلافة الأموية في دمشق والعباسية في بغداد والعثمانية في القسطنطينية. 
ولم تملك الكنيسة القبطية والأزهر الشريف في يوم من الأيام سلطات تنفيذية أو تشريعية أو رقابية تتيح لهم التحكم في أمور تخص المواطن أو المجتمع المدني أو الدولة. وهذا لا يقلل من قيمة المؤسستين الروحية والعلمية عند المصريين، إلا أنه يضع المصريين طبقا للدستور علي قدم المساواة أمام دولة مدنية يسودها القانون والنظام. وقد يكون للمؤسستين تعاليم لمن يريد اتباعها من المصريين، إلا أن الدستور المصري لم يعطي لأي من المؤسستين سلطة تعريف أو تحديد مبادئ الشريعة الإسلامية والمسيحية كونهما المصدرين الرئيسيين للتشريع. وقد اتخذت الكنيسة القبطية طوال تاريخها موقفا ثابتا وهو مؤازرة السلطة الحاكمة في مصر دون التدخل في السياسة، مع عدم السماح للسلطة السياسية بالتدخل في شئون الكنيسة. والكنيسة حينما كانت تستشعر في بعض الفترات أن السلطة غير منصفة للأقباط كانت تستقطب مطالب الأقباط في مصر وتروجها من حين لأخر للمسئولين بالدولة. اما الأزهر فطبقا للدستور فهو هيئة إسلامية علمية مستقلة، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم.
وعلى المؤسستين أن يدركا أن دورهما ينحصر في أمور من يلجأ لهما من أفراد الشعب ولكنهما ليسا رقباء أو أوصياء على جموع الأمة.
وما وصلنا إليه من تشوه للبعد الديني مصر قد يكون قد بدأ مع إنشاء جماعة الإخوان المسلمين السلفية عام 1928 وأيضا من خلال الإضعاف المتعمد لدور الأزهر ومؤسساته خلال فترة عبد الناصر. إلا أن الطامة الكبرى جاءت علي يد السادات، حينما سعي لإضعاف الانتماء العربي وإعلاء الانتماء الإسلامي وإعادة إحياء البعد البحر أوسطي داخل المكون الوطني للهوية المصرية، والذي تسبب في إرباك وانقسام المجتمع حول التراكم الحضاري لهويته، خاصة في ظل الفجوة الاقتصادية والاجتماعية التي احدثتها سياسات الانفتاح الاقتصادي داخل المجتمع المصري وتوقيع مصر لاتفاقية السلام المنفرد مع إسرائيل خلال النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي.  وبدأنا نسمع خلال تلك الحقبة العديد من الأصوات والمشاحنات المتنافرة والمتصارعة المطالبة بالحاجة للبحث عن هوية مصرية جديدة. وقد أدي هذا التردي الفكري إلى محاولات لانتقاء هوية أحادية لا تقبل الأخر كبديل لنسيج قومي حاضن لتعددية الثقافات التي أتت وتمازجت واستقرت في مصر. ووجدت الممارسات والسلوكيات المفروضة على بعض المجتمعات الخليجية، مع عودة الكثيرين من المصريين بعد سنوات طويلة من العمل في تلك الدول، طريقها داخل المجتمع المصري. وجاء تغيير المادة الثانية من الدستور عام 1980 ليضفي شرعية للخطاب السلفي الوهابي (لأهل السنة والجماعة) والذي تبناه العديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة في الجامعات والمساجد، كما تمكنت تلك الجماعات من اختراق الأزهر والتأثير على مناهجه ومقاصده العلمية. وشهد المجتمع المصري تراجعا فكريا هائلا يروج لقهر المرأة ومعاداة الأقباط وتكفير الإبداع والفنون وتشريع العنف. كما أثارت أحداث قتل الأقباط ونهب وتدمير أماكن عملهم وحرق الكنائس حفيظة الكنيسة القبطية المصرية والتي لمست هي الأخرى ضعف مؤسسة الأزهر وتحول أفكاره، فقررت هي الأخرى العمل على حماية ورعاية الأقباط. وبات المصريون يلجئون إلى الدعاة والوعاظ والقساوسة من أصحاب الديانتين في ظل تنازل مؤسسات الدولة في عهد مبارك عن دورها الثقافي والاجتماعي.
وحينما تمكن الشعب المصري من التخلص من حكم جماعة الإخوان المسلمين والتي كانت تدعمها كافة الجماعات السلفية والجهادية المتطرفة في مصر، ووافق على دستور يؤكد على حرية العقيدة والرأي واحترام القانون في إطار دولة مدنية، تصور البعض منا أننا في صدد ثورة إصلاحية دينية، تلك الثورة التي نادي بها الرئيس السيسي عند توليه السلطة، إلا أن ما نراه على الساحة المصرية حاليا يذكرنا بمحاكم التفتيش التي كانت في أوروبا خلال العصور الوسطي.
والكثيرون منا في حيرة من صمت الرئيس علي ما يحدث من انتهاكات لحرية العديد من أبناء وبنات الوطن في عهده.
وللحديث بقية .............

التعليقات