إعادة بناء صورة مصر لتكون مصر
في كل مرحلة فارقة في تاريخ مصر، تتغير صورة مصر، هذه الصورة تجعل مصر تكتسب وجهاً جديداً ذا حيوية تتناسب مع المرحلة الجديدة في تاريخ الوطن، هنا يبرز سؤال للقارئ ما هي المراحل التي تغيرت فيها صورة مصر؟
المرحلة الأولى: هي عندما هجر الإنسان الصحراء التي كانت غابات وارفة بالنباتات والحيوانات، حيث أسس الإنسان المصري حضارة عمقها طبقاً لأحدث التقديرات 200 ألف عام، ومازالت هذه الحضارة بقاياها ماثلة للعيان في العوينات والصحراء الغربية ووديان الصحراء الشرقية، في المرحلة الجديدة التصق المصري بالنهر مورد المياه الذي بني على ضفتيه زراعة ثابتة وبني القرى والمدن وابتكر علوم الفلك والرياضيات والطب.. الخ.
المرحلة الثانية: حين غزا الإسكندر مصر، فبدلا من أن يكسب الغازي وخلفاؤه مصر وجها يونانيا محضا، اكسبته مصر حضارتها لأن الحضارة اليونانية هي صورة من حضارة مصر، فضلاً عن أن اليونانيين هاجروا لمصر بكثافة منذ عصر الأسرة26، فاستقروا لذا لم يكونوا غرباء عن مصر.
المرحلة الثالثة: مع دخول العرب مصر، وكان العرب لهم وجود في قفط قبل ذلك، وتجارة مع مصر، فضلاً عن البحث العلمي أثبت أن اللغة العربية والمصرية القديمة بينهما مشتركات كثيرة فكلاهما من لغة أم واحدة، ولم يجبر الفاتح الجديد المصريين على اعتناق دينه فكان أن اندمج من أهل مصر سواء اعتنقوا دينه أن لم يعتنقوه.
المرحلة الرابعة: مع حكم محمد علي وأسرته لمصر، في هذه المرحلة بدت مصر وكأنها تنشل العرب من القيد التركي الذي قيدها نحو الانطلاق، هنا تتحرر مصر وتنطلق لتشكل مجلسا للنواب ودستور وحكومة عصرية، حتى حينما احتلها الإنجليز لم يستطيعوا فرض نفوذهم كاملاً عليها، بل كانت النخبة تدير مصر تحت ضغط الاحتلال، ومه الاستقلال بعد اعلان 28 فبراير 1922 سعى الملك فؤاد إلى اعطاء مصر شكل مختلف فغير العلم الوطني إلى اللون الأخضر بعيدا عن اللون الأحمر التركي وافتتحت سفارات لمصر في لندن وباريس وموسكو وواشنطن، وبدأت روح وطنية في الاقتصاد عبر بنك مصر.
المرحلة الخامسة: مع ثورة 23 يوليو 1952م، التي أعادت توزيع الأرض وتبنت سياسات أكثر استقلالية عن المستعمر، وبدت مصر وكأنها تقود العرب وافريقيا، ومصر تحولت للاعب يحسب حسابه على الساحة الدولية، ولولا نكسة يونيه 1967 لكان الأمر مختلف الآن.
لكن مع ثورة يناير 2011م وما أعقبها في 2013م، بدت مصر الآن في حاجة لإعادة بناء صورتها مرة أخرى، الصورة هنا ليست تتعلق بالاقتصاد والمشروعات فحسب بل تتعلق بكل رموز الدولة وآلياتها، فسياسات الماضي باتت في حاجة إلى تغيير جذري يتناسب مع المعطيات الجديدة للعصر الذي نعيشه، فالنمو الاقتصادي حتى حقق 8% أو 9% وهي من أعلى نسب النمو، دون تحقيق جودة الحياة للمواطن لا معنى له، فالعالم الآن يقيس معدلات النمو ليس بنسبتها فحسب بل بمدى تأثير هذا النمو على جودة ورفاهية المواطن وسهولة ويسر الحياة، لذا فإن القادم في مصر لن تصوغه الحكومة بمفردها، بل سيصوغه معها المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني، فصورة مصر هنا هي التحدي في عصر العلم، وعدم قبول مصر هذا التحدي معناه أن صورة مصر ستظل دولة الفهلوة والفساد والأونطجية هذه الصورة التي عكستها أفلام سينما المقاولات في السبعينات ثم فبلم حين ميسرة لخالد يوسف ثم عشوائية البناء حتى في حي كمدينة نصر التي خططت لكي تصبح طوابق بنياتها 5 طوابق وبسبب فساد حي مدينة نصر والمقاولين والمهندسين، تصبح الطوابق 11 طابق حتى في المنطقة التاسعة، فيطفح الصرف الصحي وتنهار شبكة المياه والكهرباء بمباركة من الدولة، مثل هذا المثال يحتاج إلى إعادة نظر ومواجهه وإلا فصورة مصر هي بنايات من 5 طوابق إلى جوارها بنيات من 11 طابق الاثنين المتجاورين يعكسان صورة حي فاسد ومجتمع فاسد وأفراد فاسدين، هذه الصورة هي الراسخة في أذهان الأجيال الجديدة التي لا تؤمن بالدولة التي ترسخ فساد البنيان كصورة ماثلة للعيان مصدقة راسخة عند الأجيال الجديدة، وبدون مواجهة هذه الصورة الصادقة للفساد، فإن صورة الدولة لدى هذه الأجيال ستظل مهزوزة غير حقيقية، لذا فحين ينادي بعض الشباب بسقوط الدولة يجدون صدى لدى جيلهم، لأن هذا الجيل كيف يصدق الدولة، وهي لا تستطيع نفي الصورة البصرية للفساد في عمارات مخالفة لكل قواعد التخطيط والعمران في الإسكندرية وطنطا والمنصورة.
الصورة تمتد أيضا إلى أحد رموز الدولة المصرية، وهو علمها الذي غير فيه الصقر إلى نسر دون أن نقدم سببا مقنعاً لماذا النسر؟ في حين أن الصقر موجود في الموروث المصري الفرعوني الصقر حورس وفي الموروث المصري العربي الصقر بقوته ورهبته، حتى الصقر المصري راسخ في البيئة المصرية، فهل لديك اجابة لماذا النسر و رمز الدولة وليس الصقر؟.
هنا الإجابة على الأسئلة بصورة مقنعة هي التي تقودنا إلى بناء صورة مصر، التي يجب أن تكون ممتدة من عمق التاريخ إلى الحاضر، فالدولة التي مازالت تعتمد الورق كمسند ولا تعتبر الرسائل الالكترونية "الميل" مستند هي دولة لن تستطيع إقناع أجيال تقارن بين الدول عبر شبكة الإنترنت، فلا يمكن لدولة تحتاج أن تكسب ثقة شبابها، أن تعذب هذا الشباب في التعامل مع شبابيك موظفيها، فالدولة هنا إن لم تعصرن قطاعاتها فستواجه الإحباط لدى شبابها.
إن أكثر ما يحبط في مصر هو الإعلام، فالصورة منذ عصر التليفزيون هي التي تكون معرفة الجمهور، وهي كذلك في عصر الإنترنت، لكن مع غياب الصورة الحقيقية لصالح صورة سطحية تركز على الترفيه والاستهلاك وتستبعد العمق الذي كان مع برامج مثل عالم البحار لحامد جوهر أو برنامج ثقافي لفاروق شوشة أو حتى برنامج للتكنولوجيا ليوسف مظهر أو للموسيقى العربية لرتيبة الحفني، هذه البرامج شكلت معارف أجيال وللأسف القنوات الفضائية الخاصة والحكومية تعتبرها لا لزوم لها، في حين أن الملتقي وهو مستهلك هذه المادة الإعلامية له حقوق على هذه القنوات يجب فرضها على هذه القنوات.
هل هناك آمال في مصر؟
في حقيقة الأمر ان هناك آمال عريضة في إعادة تكوين صورة مصر مرة أخرى، بدءاً من التعامل مع جدية الصعيدي المثابر المحب للعمل الجاد هذه الشخصية التي تشبه شخصية الألماني في عمله، في الوقت الذي يسخر فيه الاعلام المصري الوطني من الصعيدي الجاد لحديثه، هنا يجب اعادة التركيز على بناء شخصية المصري الجاد كالصعيدي الجاد الذي هو المصري الأصيل، إن مشروعات مثل جامعة النيل، مدينة زويل للعلوم، مكتبة الإسكندرية، مصر الخير وغيرها تبعث على الأمل في مصر، لكن إذا كنا نرغب في مزيد من الأمل فعلينا أن نجعل العلم والتعليم مدخلاً أساسيا لبناء شخصية مصر المعاصرة، فيجب رفع قبضة الدولة عن جامعة القاهرة وعدم فرض أعداد عليها فوق طاقتها، واطلاق يدها في البحث العلمي، لكي تنافس على الصعيد الدولي، يجب إعادة بحث مشروع مدارس النيل بجدية مطلقة، لكي يكون لدينا مشروع وطني للتعليم معاصر، كما أنه بجي تعليم النشء ما هي مصر؟ هنا لابد من إعادة كتابة التاريخ الوطني في إطار تقييم سلبي وايجابي لكافة المراحل التاريخية، وليس عبر نصوص يتلاقها الطالب ليحفظها، فعصر أسرة محمد علي لم يكن كله ايجابيات وليس كله سلبيات، وهذا يطبق على عصر الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات.
هنا يجب إعادة اطلاق يد الجمعيات العلمية في مصر لتلعب أدواراً ايجابية في مجالاتها، كذلك يجب نقل المراكز الثقافية خارج مصر لوزارة الثقافة مع اقامة هيئة تنسق عملها على غرار المجلس الثقافي البريطاني.
إن إعادة بناء صورة مصر لتكون مصر في المستقبل التي ننشرها أمر يحتاج لصفحات، ولكن ما أثرته في السطور السابقة مجرد أفكار للنقاش العام، فلاشك أن إعادة بناء صورة مصر المعاصرة في حاجة لنقاش جاد.