كيف أفسدت السياسة حياة المصريين

 

أصبحت لعنة الانقسامات واحدة من أخطر القضايا الخلافية فى الشارع المصرى حتى وصلت الى الأسرة والعمل والفكر والسلوك.. أصبح من الصعب جدا ان يتفق الناس على شىء وانتشر الوباء بيننا حتى وصل الى طريق مسدود اختلطت فيه الأوراق والأشياء والرؤى.. أصبح من السهل ان تجد اكثر من تفسير لأشياء ليس لها غير وجه واحد واصبح من الصعب ان تجد قياسا لأفكار ومواقف لا تحتمل الصخب والجدل والخلاف.. اوشك المصريون الأن ان يختلفوا على ظهور الشمس ومواعيد الصلاة والحيرة ما بين ثوابت لم نختلف عليها وثوابت اخرى استجدت ولا مكان لها فى كل الأعراف..

من يتحدث الآن باسم الوطن..هل هم رجال الدين..ام رجال الفكر..ام اهل الفن ام تجار السياسة..ان الفرق كبير جدا بين الوطنية والسياسة فليس كل سياسى بالضرورة وطنيا..وليس من الضرورى على كل من احترف السياسة ان يتاجر فى الوطن..الأوطان شىء والسياسة شىء آخر.. ان الوطنية تعنى قبل كل شىء الولاء والانتماء والتضحية من اجل الوطن اما السياسة فلها لغة اخرى وحسابات مختلفة تبدأ بالمصالح وتنتهى بالارتزاق وما بين الإثنين يمكن ان تهدد القيم وتفسد الأخلاق..

إن الوطنية لا ترتبط بالنخب سواء كانت سياسية او فكرية او دينية لأنها تتجاوز كل هذه الآفاق ان فيها الفكر والدين والسياسة وفيها ما هو اعمق وهو تراب الوطن والأرض التى يعيش عليها الإنسان وهى اكبر وأقدم واعرق الحقائق فى تاريخ البشر..والأرض ليست قطعة من تراب انها الزمن والعمر والحياة والماضى والحاضر والمستقبل.. أن الشارع المصرى الآن يكاد ان ينسى اول دروس الوطنية وكنا نتعلمها فى الأسرة والمدرسة والكتاب والمسجد والكنيسة وحين اختلفنا حول مفهوم الوطن ومعنى الوطنية انقسمت الأسرة على نفسها فهذا مسلم وهذا مسيحى وهذا سلفى وهذا إخوانى وهذا وطنى وهذا رجعى..لقد اختفت صورة الوطن بمعناها القديم وبدأت الأشياء تصغر فى عيوننا حتى وجدنا انفسنا ندين بالولاء لفريق او جماعة او عصابة..

وفى ظل هذه الانقسامات تسربت فى حياتنا امراض السياسة وصراعات الساسة واصبحت السياسة هى التى تحرك الفكر والسلوك والأهداف والمصالح رغم ان الوطن هو الذى كان دائما يجمعنا فى السراء والضراء وفى تاريخنا فترات كثيرة توحدت فيها احلامنا ورؤانا تحت راية الوطنية ولكن السياسة بوجهها البغيض حملتنا الى مناطق اخرى استنزفت قدراتنا وشردت صفوفنا وتركتنا فريسة للضياع .

لقد فرقتنا السياسة فى كل شىء والغريب ان البعض اساء استغلال المفهوم الحقيقى للوطن والوطنية وجعل السياسة ستارا لكل الجرائم التى ارتكبها اصحاب المصالح..كان من السهل تحت الشعارات السياسية المغرضة ان تتحرك الحشود والجموع تحت راية المصالح او الدين او السلطة او المال، كان زواج السلطة ورأس المال وهو زواج باطل وغير شرعى احقر وسيلة سياسية لنهب اموال الشعب تحت ستار الوطنية ولم يكن غريبا ان تتم كل الجرائم تحت رعاية الحزب الوطنى الذى رفع لواء الوطنية زورا وبهتانا..

كان إعلان الزواج غير شرعى بين جماعة الإخوان المسلمين والدين كارثة شوهت صورة مصر الثقافة والحضارة والوسطية وانحرفت بالدين الى مستنقعات السياسة وفيها خسر المصريون الدين والسياسة معا.. وحين اقتحم الدين آفاق السياسة كان ذلك بداية لإشعال الفتن السياسية التى انتهت بالعنف والقتل والإرهاب.. لقد تصور دعاة الوطنية فى الحزب الوطنى انهم أصحاب الوطن وظن دعاة الدين فى جماعة الإخوان المسلمون انهم حراس الدين وكان الدين والوطن بريئين تماما من كل ما لحق بالمصريين من الجرائم والكوارث والفتن .

إن اخطر ما حدث فى مصر ان البعض تصور نفسه المتحدث بأسم الوطن وتصور البعض الآخر انه الوصى على الدين وكانت السياسة هى منطقة الصراع ودفع الوطن ثمن ذلك كله .

إن لعنة الانقسامات السياسية التى اصابت النخبة المصرية لم تكن فقط حول الدين والوطن ولكنها انتقلت إلى قضايا الفكر والإبداع والثقافة و تحت شعارات السياسة اخذ الإبداع صورا كثيرة لم تتجاوز حدود الشعارات البراقة ورغم ذلك طغت لغة السياسة واحتفى النقاد وأصحاب الفكر بنماذج غريبة وساقطة بدوافع سياسية لا علاقة لها بالقيمة او الأثر او الإبداع الحقيقى.. فى تاريخنا الحديث فرضت السياسة على الذوق العام كتابا وفنانين وكذابى زفة لم يقدموا شيئا فى رحلة الإبداع المصرى ولكن عباءات السياسة غطت على السوءات وخسر الإبداع وخسرت الثقافة والسبب فى ذلك كله هو مستنقعات السياسة التى اغرقت كل شىء وشوهت كل قيمة وجعلت من الأقزام نجوما ومن التفاهات رجال فكر وإبداع..

حين تم الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال كان هناك زواج اسوأ وأخطر بين رأس المال والإعلام واكتسحت الملايين رءوس الفكر والفن والقيمة فكانت كل الصور القبيحة والمخزية التى وصل اليها الإعلام المصرى وجرفت معارك السياسة كل أطياف المجتمع وخرج الجميع باحثا عن مزيد من المال والسلطة .

وتحولت المنابر الإعلامية إلى ساحات قتال بين تيارات فكرية مريضة ساعة باسم الدين وساعة أخرى باسم الفن وما بين هذا وذاك كانت صراعات الفتاوى والمسلسلات والإعلانات ونشر الفضائح والمخدرات وكانت السياسة هى الساحة الأكبر لكل هذه الانقسامات والصراعات..

كانت المسافة كبيرة جدا بين إعلام يحرك القلوب والأفكار والمشاعر وإعلام في كل شىء يتاجر وللأسف الشديد ان الجميع امتطى حشود السياسة متصوراً أنها تغنى عن كل شىء وتصنع كل شئ..انها تمنح المال والشهرة والبريق.. وقبل هذ تمنح القوة والسلطان وكان زواج الإعلام والمال اكبر كارثة حلت بالدور الثقافى والحضارى المصرى.

لم ينج الفن أيضا من لعنة الانقسامات وأوبئة السياسة بل كان احد ضحاياها حين شوهت الأفكار والشعارات السياسية مسيرة الفن المصرى وتحول إلى أبواق هنا وأبواق هناك وتدخلت لعنة رأس المال لكى تدمر ما بقى من رصيد هذا الفن في مسلسلات هابطة وأفلام ساقطة وأصبحت التجارة هى التى تحدد نوع الفن ونجومه وقضاياه وخسر الفن المصرى أمام هذا دوره وتأثيره أمام مطامع المال وصفقات المنتجين.

اقتحمت أمراض وأوبئة السياسة كل شىء في حياة المصريين وغابت عن الساحة تلك المشاعر الوطنية التى كانت تحرك القلوب وتلهب المشاعر وأصبحنا نتحدث عن هذا الزائر القديم الذى كان يسمى الوطن ومع ارتفاع درجة الشطط السياسى زادت حدة الانقسامات بين المواطنين واتسعت الرغبة في الهجرة وزادت مساحة الكراهية بين أبناء الوطن الواحد وسيطرت علينا مشاعر الإحباط والكآبة..وما بين أجيال عاشت حياتها على أغنيات قديمة للوطن كانت هناك اجيال اخرى فرقتها الحشود والشوارع والاتجار باسم الدين..

لقد أفسدت السياسة أشياء كثيرة في حياة المصريين أفسدت عليهم الفكر السياسى بمفهومه الصحيح أحزابا ومناخا ورموزا والذى يريد ان يعرف الحقيقة عليه ان يراجع قائمة الأحزاب المصرية وماذا بقى منها..أفسدت السياسة الفكر الدينى حين تحول الدين إلى سلعة سياسية واستباح عقول البسطاء في ظل أمية استولت على ثلث سكان مصر في السنوات العجاف..أفسدت السياسة الاقتصاد المصرى حين احتكر عدد من الأشخاص مصادر الثروة ونهبوا أموال الشعب تحت ستار أغطية سياسية مهترئة وفاسدة.. أفسدت السياسة الفن المصرى العريق حين تحول إلى تجارة حيث لا هدف ولا قيمة ولا مسئولية، أفسدت السياسة إعلام مصر حين أصبح مرتعا لرأس المال المغامر القادم من اى مكان.

من الخطأ ان يقال علينا ان نخاصم السياسة لأن السياسة تدخل في كل شىء ابتداء برغيف الخبز وانتهاء بفنجان القهوة ولكنى أتحدث عن السياسة حين توقف مسيرة المجتمع رغم انها ينبغى ان تدفع به إلى الأمام أتحدث عن السياسة حين تشوه عقول أجيال كاملة تحت ستار الشعارات البراقة انها ينبغى ان تكون مصدرا للفكر والوعى والمشاركة..

ماذا سنفعل الآن مع أجيال الشباب الذين شوهتهم أفكار خلطت الدين بالسياسة وخرجوا ساخطين على كل شىء بعد ان ذاقوا مرارة التهميش والاضطهاد والسجون كيف نعيد هؤلاء إلى مسيرة الوطن مرة أخرى وكيف تعود كلمة الوطنية تكبر في أعماقهم مرة أخرى مع مجتمع يحترم العدالة ويقدس حقوق الإنسان في الحرية والكرامة..

ان الدولة تتحمل مسئولية الكثير مما حدث هى التى فرقت أبناء المجتمع ما بين رجعى وتقدمى وسلفى واخوانى وهى التى بنت المنتجعات ليسكنها الأكابر وتركت العشوائيات لضحايا الفقر والحاجة..

على جانب آخر فإن النخبة هى التى أفسدت الأفكار ووزعت الألقاب وجندت العقول تحت شعارات لم يتحقق منها اى شىء ما بين اشتراكية الفقر وانفتاح السداح مداح وبيع اصول الدولة واستيلاء عدد من الأشخاص على ثروات الشعب فى صفقات مريبة بين السلطة ورأس المال .

كانت الأفكار الشاردة وراء كل هذه التقسيمات التى لم تحقق أهداف الشعب وأحلامه في وطن قادر على توفير الحياة الكريمة لأبنائه.

مازلت مصرا على ان الوطنية غير السياسة وان السياسة فرقت جموعنا وان الوطنية وحدت صفوفنا ذات يوم على الولاء والانتماء للأرض والوطن وإذا كنا نريد ان نعود بهذا الوطن إلى عهده القديم فعلينا ان نهرب من مستنقعات السياسة التى أفسدت حياتنا في كل شىء دون ان تصل بنا إلى أى شىء..

في السنوات الخمس الماضية تحول نصف المصريين إلى زعامات سياسية وتحول النصف الآخر إلى حشود وما بين الزعامات والحشود نسى المصريون ان هناك أشياء أهم اسمها العمل والإنتاج والإبداع لأن الشعارات لا تبنى أوطانا ولا تحمى شعوبا ويكفينا ما ضاع من العمر والوقت والفرص.

لا يمكن لإنسان عاقل ان يطالب مجتمعا يعيش فى عالم فقد كل مشاعر الإنسانية بأن يتخلى عن السياسة ولكن هناك فرق كبير بين سياسة تبنى الأوطان وتدفعها لمستقبل افضل وسياسة فرقت كل شىء حتى ابناء الأسرة الواحدة حين تتحول السياسة إلى تجارة بأسم الدين ونهب لثروات الشعوب وتقسيم الأوطان إلى جماعات وشلل فهى وباء يدمر كل شىء..وهذا ما يحدث فى مصر الآن..لم تكن مصر فى يوم من الأيام بهذه الدرجة من الانقسامات ولم يكن شعبها بهذه الدرجة من الكراهية وهذا ما أخذنا من صراعات السياسة ومعاركها الفاشلة ما بين حزب وطنى افسد ونهب كل شىء وجماعة دينية استباحت عقول شعب وضمير امة.

 

.. ويبقى الشعر

تَغيَّر كلُّ ما فينَا .. تَغيَّرنَا

تَغيَّر لونُ بشرتنا

تساقطَ زهرُ روضَتنَا

تهاوَى سحرُ ماضينا

تغير كلُ ما فينا ... تغيرنَا

زمانٌ كانَ يُسعدُنا ... نراه الآن يُشقِينَا

وحبُ عاش في دَمِنَا ... تسربَ بينَ أيدينَا

وشوقٌ كان يحْملُنَا ... فتُسكرنا أمَانِينَا

ولحنٌ كانَ يبْعثنَا ... إذا ماتت أغانينا

تغير كلُ ما فينَا .. تَغيرنَا

****

وأعجبُ من حِكايِتنَا ... تكسَّرَ نبضُها فِينا

كهوفُ الصمتِ تجمَعُنَا دروبُ الخوفِ .. تُلقِينَا

وصرتِ حبيبتي طيفًا .. لشىء كان في صدري

قَضينا العُمرَ يُفْرحنا .... وعشنا العمرَ يُبكينا

غدونا بعده موتَى .. فمن يا قلبُ يُحيينا ؟!

"قصيدة حبيبتى .. تغيرنا سنة 1981"

نقلا عن الأهرام.

التعليقات