المعادلة المستحيلة.. لا تطفئوا مِشعلها!

نحلُمُ بالمدنية، نحلُم بالتنوير، منذ وعينا على العنصرية تسكنُ ديارنَا والرجعيةِ تُعشّشُ فى أوصال بلادنا. أشعلنا الثورةَ فى إثر الثورة، وكلما أورقت قطوفُ المدنية زهورًا دانياتٍ وأوشكنا على قطف ثمرها الحلو، جاء الأشرارُ واختطفوا ثمارنا ودهسوها بالأحذية، ثم أطفأوا مشاعلَ التنوير التى نحملها. مَن نحن؟ نحن المواطنون والكتّاب والشعراء والفنانون، الحالمون بمجتمع راق عادل متحضّر يليق بآدميتنا، ويليق باسم مصر الشاهق الذى سمحنا له أن يهبط جيلاً من بعد جيل، وعهدًا من بعد عهد، حتى غدت مصرُ فى ذيل ركب العالم. لسنا، من أسف، صُنّاعَ قرار. بل مجرّد حالمين. الحالمون يحلمون بالتنوير، وصُنّاعُ القرار يئدون الحُلم. والمعادلةُ المستحيلة هى: أن يصبح الحالمُ صانعَ قرارٍ. أو يكون صانعُ القرار من الحالمين بالتنوير.

لكنّ المستحيلَ يحدثُ أحيانًا كطفراتٍ مجتمعية تحت غيوم الظلام. فإن حدث المستحيلُ، وبرز من بين جموع الحالمين صانعُ قرار يحمل الِمشعل، حقَّ على الجميع رفعه على الأعناق حتى لا ينطفئ المشعلُ فى يده. فإن سُمح للمشعل أن تخبو جذوتُه، فإن ذلك المجتمع يستحقُّ الظلامَ الدامسَ الذى صنعه بكسله وترهّله وخوفه.

د. جابر جاد نصّار، رئيس جامعة القاهرة، أحدُ الحالمين بغدٍ أجمل. وقدّرتِ الأقدارُ أن يكون صانعَ قرار، فأشعل المشعلَ وهّاجًا مشرقًا فى وجه الظلام، وبدأ المسيرة نحو النور. نعقتْ من حوله غربانُ الطائفية، وخفقت فى وجهه أجنحةُ خفافيش الظلام العمياء. لا بأس. فالغربانُ تكره المدنية والخفافيشُ تمقتُ النور. ولكن، أيُّ غفران للأسوياء إن تركوا المشعل يسقط من يده ليعود الظلام؟! كان قرارُ ذلك الحالم النبيل بإلغاء خانة الديانة من أوراق الجامعة وشهاداتها.

وماذا تفعلُ الديانةُ فى أوراق طالب جامعيّ؟! اللهم إلا إن كنّا نريد أن نميّز طالبًا عن طالب وفق معتقده؛ أو خرّيجًا عن خرّيج وفق طائفته، بما يخالف الدستور ويهدم قيم العدالة والتحضر والمدنية وحقوق المواطنة؟! قرارٌ جسور أكّد لنا أن هناك رجالا ذوى بأس لا يهابون غوغائية الإرهاب الفكرى التى تسرى فى شرايين بلادى مسرى الدم، ولا يخافون نعيقَ البوم وصراخ الخفافيش، بل يصدعون لصوت الضمير ويُعلون مبادئ الدستور الذى اِستُفتينا عليه موافقين على عدالته وإعلائه حقوق المواطنة ونبذه العنصرية والطائفية والتفرقة بين مواطنى هذا البلد المحزون بنا. وكان جابر نصّار البايونير الذى مهّد الأرض الوعرة لتنبُتَ من جوفها الجدبِ زهورُ المدنية والتنوير.

وحدث مستحيلٌ آخر. حالمٌ آخر كان صانعَ قرار. مهندس طارق النبراوى، نقيب المهندسين، التقط المِشعلَ المنير وأصدر قرارَه المحترم بإلغاء خانة الديانة من كافة أوراق المهندسين وشهاداتهم ومخاطباتهم الرسمية. فإن كنتُ قد شعرتُ بالغيرة مع قرار د. جابر لأننى من أبناء جامعة عين شمس التى أرجو لها أن تحذو حذو جامعة القاهرة، إلا أننى أفخرُ اليوم أننى إحدى بنات نقابة المهندسين المصريين التى أعلا شأنَها مهندس طارق النبراوى منذ تولّى زمام أمرها، بعد عهود من إظلامها على يد الإخوان الذين سرقوها ونهبوا خيرَها سنواتٍ طوالا، ثم جاء اليوم نقيبُنا المحترم ليتوّج ذلك العلاء بقراره الأخير المتحضّر.

هاكُم شمعتان منيرتان بزغتا من قلب الظلام لترسما حولهما بقعتى ضوء يتحدى الإظلام والظُّلم والطائفية ونعيق خفافيش الويل. هاكُم رجلان لم يهابا عويل الإرهاب الفكرى ورفعا مشاعل التنوير على مدى أذرعهما لكيلا يطالها الأقزامُ فيطفئون جذوتها.

فهل تصيرُ الشمعتان شموعًا؟! وهلا أضحى المشعلانِ مشاعلَ تنوير كثيرة؟ وهل تتقوّى قلوبُ الخائفين ليلحقوا بموكب التنوير الجسور؟! لا منقذَ لنا إلا المدنية والتنوير يا أولى الألباب.
** نقلا عن المصري اليوم

التعليقات