على هامش البطرسية

اتّصلتْ بي تليفونيًّا صديقتي الراهبةُ وهي تبكي مساءَ يوم المذبحة التي جرت الأسبوع الماضي في الكنيسة البطرسية بالعباسية. فواسيتُها وقد ظننتُ دموعَها، تشبه دموعَنا: حزنًا على مَن رحلوا، وأسفًا على مصير المجرم التعس بما صنعت يداه الآثمتان. لكنني فوجئتُ بها تقول وهي تُغالب النشيج: «كان مفروض أروح الكنيسة النهادره وأحضر القدّاس معاهم. بس للأسف مرحتش عشان أمي كانت مريضة وكان لازم أقعد معاها. خسرت بركة كبيرة النهارده! كان نفسي أروح السماء مع اللي راحوا، لكن ظروفي حرمتني من البركة الكبيرة دي! يا خسارة!» يا إلهي! أيُّ بشرٍ هؤلاء؟! إنهم يعرفون كيف يُفسِدون على السفّاحين فرحتَهم!

تحيةَ احترام وتقدير للأستاذ الدكتور «عمر سلمان»، عميد كلية التجارة جامعة حلوان، ولهيئة التدريس بتلك الجامعة، الذين قرروا إطلاق اسم الشهيدة الطالبة: «مارينا فهيم» شهيدة تفجير الكنيسة البطرسية، على دفعة العام الحالى بالكلية ٢٠١٧، تلك التي كان من المقرّر أن تكون تلك الصبيةُ الجميلة من بين خرّيجيها، لولا أن قطفت عمرَها الغضًّ، يدٌ فاجرةٌ لا تعرفُ الله. كما يدرسون حاليًا فكرة إطلاق اسمها على أحد المدرجات بالجامعة التي دخلتها تلك الجميلةُ، ودرست على مقاعدها قبل أن تغتالَ أحلامَها، وأحلامَ أسرتها، تلك اليدُ السوداء قبل إتمام دراستها. كل احترامي لجسارته وتقديمه رسالة جميلة، وبليغة. أما الرسالةُ فتقول للإرهاب بصوتِ جهور: «إن مَن تغتالونهم لا ينالون حظّهم الثريَّ في السماء وحسب، بوصفهم شهداء أحياءً عند ربّهم يُرزقون، إنما ينالون كذلك تكريمًا مستحقًّا في الدنيا التي حرمتوهم منها، وحرمتوها منهم. فحبِطتْ أعمالُكم.»، والعُقبى لرسائل أخرى مماثلة، علّها تُفسِدُ على الإرهابيين فرحتهم بانتصار وهميّ يظّنون به أنهم يُهلكون مَن يستهدفون من ضحايا وشهداء. خاب ظنّهم، وفسدَ ما يدبّرون بليلٍ.

اتصلتُ بالأستاذ عماد أمين، الذي قدّم للشهادة على مذبح الكنيسة البطرسية زوجتَه وابنتَه الصبيّة الجميلة، لكي أُعزّيه وأعتذر له عمّا فعل به السفهاءُ منّا، وما هم منّا!! ففوجئتُ به يقول: «بتعزّيني ليه يا أستاذة فاطمة؟! باركي لي. أنا أخدت بركة كبيرة جدًّا النهارده مكنتش أحلم بيها!» ثم أردف قائلاً: «بس أنا زعلان منهم (زوجته وابنته)، عشان أخدوا البركة لوحدهم وسابوني أنا وابني هنا على الأرض وحدنا. إحنا كأسرة، اتعودنا طول عمرنا نقتسم مع بعض الخير والشر. لكن النهارده مراتي وبنتي ليه مقسموش معانا النعمة دي؟! وعاوز أقولك إني بأشكر الشابّ اللي قتلهم لأنه طمّني عليهم ووصلهم السماء بدري لشدّ ما تعذبوننا بغفرانكم!».

بالأمس، فارقت الحياةَ الطفلةُ الجميلة «ماجي مؤمن» بعد غيابها في غيبوبة استمرت أسبوعًا كاملا. طفلة ساحرة أدهشتِ الجميعَ بابتسامتها العذبة التي لم أرَ مثيلاً لها، حتى أطلق المصريون عليها: «صاحبة أجمل ضحكة في مصر». استشهدت تلك الطفلةُ الجميلة التي لم تعرف الإثمَ ولا الخطيئة في سنوات عمرها النحيل، لتُكمل عقدَ الشهداء بلؤلؤة أخيرة فيصير سبعًا وعشرين لؤلؤة بريئة مغدورة. أيتها الملاك النقيّ، يدٌ سوداء مجرمةٌ قطفتك وأنت برعمةٌ بعدُ لم تتفتح للحياة. سامحينا.

ترقدُ الآن على فراش التعافي، بإذن الله، طفلةٌ أخرى جميلة اسمها «دميانة»، نالها من شظايا الحزام الناسف ما نالها، فأصيبت بتهتك هائل في كبدها الصغير. نسألُ اللهَ العليَّ الرحيم أن يمدَّ لها يدَه الطيبة بالتعافي، حتى لا نفقدَ روحًا بريئة جديدة، ويزيدَ العقدُ الدُّريُّ لؤلؤةً.

سامحونا.
** نقلا عن المصري اليوم

التعليقات