هوّس الماضي

لم يعرف العالم مناهج علم التاريخ وأديباته إلا في منتصف القرن التاسع عشر. أما قبل هذا فكان اعتمادهم في تسجيل الوقائع والأحداث على المخطوطات، القائمة على التسلسل الزمني دون ابراز للأحداث الهامة ودون دراسة أو تفسير للتغيرات التي تحدث وتأثيراتها. ولم تمثل المخطوطات أهمية للشعوب وانحصر استخدامها داخل جدران طبقة الحكام والكهنة والفلاسفة.

كما لم يعرف المصريون شيئا عن التاريخ الفرعوني إلا بعد أن استطاع العالم الفرنسي شامبليون فك رموز اللغة الهيروغليفية عام ١٨٢٢ وذلك بعد اكتشاف حجر رشيد عام ١٧٩٩علي يد أحد جنود الحملة الفرنسية على مصر. وكان الحجر عبارة عن مرسوم ملكي مكتوبا بثلاث لغات: اللغة الهيروغليفية الدينية المتداولة في المعابد، واللغة الديموطيقية القبطية المتداولة بين العامة من المصريين، واللغة الاغريقية اليونانية القديمة. ومنذ ذلك التاريخ فقط بدأ العالم يتعرف تدريجيا على حضارة قدماء المصريين وبدأ الكشف عن القليل من أسرارها وترجمة علومها وإنشاء علوم المصريات. ومازال المؤرخون حتى يومنا هذا يطورون في أبحاثهم وتحليلاتهم لتاريخ العالم منذ نشأته. وبالرغم من الاهتمام العالمي الخاص بالتاريخ المصري القديم إلا أن ما نعرفه عن عصر الفراعنة لا زال يمثل لمحة من هذا التاريخ مصبوغا بالكثير من الاجتهادات والتفسيرات المختلفة.

إن فهم المصريين للعمق التاريخي الذي ينحدرون منه، وإدراكهم لتأثيرات الحضارات والثقافات المتلاحقة والوافدة عليهم لفترة تقدر بسبعة ألاف سنة لم يبدأ إلا أثناء حكم محمد علي لمصر وما تلاه من فترات حكم الأسرة العلوية وحكم الجمهوريات. أي أن هذا الشعور بالبعد التاريخي المسيطر على فهم المصريين لأنفسهم لم يحدث إلا خلال المائتي عام الأخيرة. وقد يفسر هذا سبب عدم استفادة المصريين بالتراكم الحضاري والثقافي الذي حدث لهم في الماضي وتراجعهم عن ركب التقدم الذي شاهده العالم اعتبارا من النصف الثاني من القرن الماضي. بل اكتفوا بادعاء الريادة والتغني بالأصالة معتمدين على ما توارثوه من سير شعبية وحكايات.

وقد شهد كتابة التاريخ في العصر الحديث إصدارات متعارضة من حيث التفسير والتحليل وحتى في وصف الأحداث والوقائع. وجاء بعضها مزيفا للحقائق والبعض الأخر شابه عدم الفهم. وفي مصر نجد أن الجيل الذي عاصر نهايات الملكية وبدايات الجمهورية شاهد كيف أن ما كتبه المؤرخون في عصر الملكية يختلف كثيرا عما تم تدريسه بالمدارس والجامعات في عصر الجمهوريات.

وقد يكون هناك من المجتمعات التي صادفت مثل هذا التدليس والتزييف في كتابة التاريخ. إلا أنه مع بداية عصر تكنولوجيا المعلومات في أوائل التسعينات من القرن الماضي بات هذا التناقض مكشوفا للباحثين والدارسين والمهتمين بالمعرفة، وكانت صدمة الكثيرين كبيرة حينما اكتشفوا أن التزييف والكذب في الوقائع التاريخية شمل أيضا أحداث قريبة.

 وأذكر على سبيل المثال ما حدث في مصر من إخفاء لموقف الملك فاروق من الثورة عليه حينما رفض تدخل الحرس الملكي وعدد من الألوية البحرية لفض حركة الضباط الأحرار، وانفصال السودان عن مصر بعد ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ودور الرئيس الراحل محمد نجيب وكيف تم استبعاده وتحديد اقامته، وأسباب فشل الوحدة المصرية السورية، وأسباب حرب اليمن ونتائجها، وأسباب حرب ١٩٦٧ ونتائجها، وبعض بنود اتفاقية السلام مع إسرائيل. 

ويتضح أن معرفة مجتمعاتنا بتاريخها تتوقف على رغبة الحكام في إعادة كتابته. وقد شاهدنا كيف اختلف التاريخ وتقييم الشخصيات التاريخية في عهد كل رئيس أتي ليحكمنا. فقرأنا في عصر عبد الناصر كيف كان الملك فاروق سكيرا واكتشفنا في عصر السادات أنه لم يكن يشرب الخمر. واختفت في عهد عبد الناصر سيرة سعد زغلول وثورة ١٩١٩ وما فعله طلعت حرب من انجازات والأدوار الوطنية لمصطفي النحاس ولم يتم انصافهم إلا في عهد مبارك. كما لم يتم انصاف محمد نجيب إلا في عهد الرئيس الحالي. وفي عصر السادات جاء تقديس دور مصطفي كامل في الحركة الوطنية المصرية، في حين انطمس هذا الدور لتحوم حوله الشبهات حول نقاءه ومقاصده في عصر الرئيس الحالي. كما يبرز في عصر الرئيس الحالي جدلا حول كم الإنجاز الذي حققه أحمد عرابي ومدي تأثيره على تمصير المناصب القيادية العسكرية أثناء فترة حكم الخديوي توفيق. كما وصف التاريخ الخديوي إسماعيل أثناء فترة ناصر والسادات ومبارك بالعمالة والخيانة في حين أن الكثير من المعلومات التي تم الإفصاح عنها مؤخرا تشيد بدوره النهضوي والتنويري لمصر.

وحتى في الفترات التي سبقت حكم محمد علي، لم يعرف المصريون الذين عاصروا عهد الجمهوريات أن اسلافهم كانوا يعيشون عصور مظلمة خلال فترة حكم المماليك من عام ١٢٥٠ وأثناء فترة حكم العثمانيين من عام ١٥١٧ لحين تمكن محمد علي من الاستقلال عن الخلافة العثمانية في عام ١٨٦٧. كما أذكر كيف تعلمنا أنه كانت هناك رغبة قوية ودائمة لدي فرنسا لاحتلال مصر حينما ربط العديد من المؤرخين المصريين والعرب بين الحملة الفرنسية على مصر سنة ١٧٩٨ بقيادة نابليون بونابرت وما تعرضت له مصر من حملتين صليبيتين في عام ١٢٢١ وفي عام ١٢٥٠، والأخيرة عُرفت بقيادة الملك لويس التاسع لها، واللتين انتهيا بهزيمتهما وخروجهما من مصر. وبغض النظر عن حقيقة أطماع فرنسا في ذلك الوقت إلا أن حملة نابليون الفرنسية والتي استمرت من عام ١٧٩٨ حتى عام ١٨٠١ قد ساهمت في القضاء على سيطرة المماليك والولاة العثمانيين على مقدرات المصريين. كما تعرف المصريون من خلال الحملة على الثقافة الغربية حيث رافقت الحملة أكثر من ١٥٠ عالما من مختلف العلوم مثل الطب والفلك والكيمياء بالإضافة لأكثر من ٢٠٠٠ من التقنيين والفنانين، والتي أسفرت مجهوداتهم عن كتاب "وصف مصر"، ورسم أول خريطة للدولة المصرية، ووضع مقترح لحفر قناة السويس، واكتشاف وفك رموز حجر رشيد.

لم يكن التاريخ في وطننا منصفا للواقع. أما مؤرخينا فالكثيرون منهم لم يراعوا الأمانة المهنية في تسجيلهم وتحليلهم للأحداث، كما دأبوا على استحضار أكاذيب أو وقائع مهترئة من الماضي، طبقا لأهواء الحاكم، لاستنفار قبول المواطنين للزمن الحاضر. والمصريون أغلبهم باتوا يستمدون احتمالهم وقبولهم لمرارة الحاضر من خلال التسليم لما يسمعونه ويقرؤونه عن تاريخ بعضه مغلوط أو منقوص.

 

  إن ارتباط المصريين بتأثير الأحداث والوقائع عليهم يجب أن يبدأ من فهمهم للحاضر الذي يعيشونه. عليهم أن يتخلصوا من عبء الماضي الذي يشغلنا دون أن نعرف عنه الكثير.  علينا أن نتوقف عن هذا الهوس الذي أصابنا والذي يجعلنا فخورين بتاريخنا القديم ومعتزين بأسلافنا الأولين، غير عابئين بمرارة الحاضر وتحديات المستقبل.

التعليقات