لماذا يرفض المصريون الحرية؟

يعاني المصريون من حالة استقطاب حادة لم تشهدها البلاد من قبل، تحديدا منذ استفتاء تعديل الدستور في ١٩ مارس ٢٠١١ أي بعد أقل من شهرين من ثورة ٢٥ يناير. كان مطلب المؤمنين بمسار الثورة وقتها الغاء دستور ١٩٧١ بتعديلاته المعيبة التي سمحت لبقاء مبارك بالسلطة لفترة ثلاثين عام، إلا أن حملات تحريف المغزى من هذا المطلب جعل الغالبية من المصوتين يعتقدون أن اختيارهم لهذا المطلب يمثل تهديدا للإسلام. وشعرت وقتها أن المصريين مازالوا أسري لمجموعة من المحاذير نجحت أنظمة الحكم منذ عام ١٩٥٢ في زرعها داخل عقولهم، وأن أدوات التحكم في اختيارات الشعب مازالت في أيدي من يملكون السلطة. كما أدركت أن جموع الشعب التي نزلت إلى الشوارع والميادين لتأييد الثوار في ٢٥ يناير هم أول من سيتخلون عنهم، وأن الساكتين عن فساد وقمع حكم مبارك طوال ثلاثين عام لم ينزلوا ليؤيدوا الثورة بل نزلوا سعيا للفوضى والانتهازية أملين في استغلال تساقط النظام وأمنه للحصول على أية مكاسب.

وبالرغم من أن قدرة السلطة علي بث مشاعر الفزع عند المصريين هو منهجا عايشناه كثيرا خلال السبعة عقود الماضية، إلا أن الجديد هذه المرة هو حدوثه بعد ثورة قامت من أجل تحرير إرادتهم من الخوف، والحفاظ على كرامتهم، وتمكينهم من حقوقهم.

بدأ مخطط استرجاع الخوف بالفراغ الأمني الذي تعمدت إحداثه أجهزة الداخلية، تلاه وقوع مجموعة من المذابح والانتهاكات الغير مبررة أذكر منها ما حدث في ماسبيرو واستاد بور سعيد وكشوف العذرية. ثم تلي ذلك افراج المشير طنطاوي عن مجموعة من المتهمين في قضايا إرهاب، ثم السماح بتأسيس أحزاب دينية لجماعة الاخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والدعوة السلفية. تلي ذلك غض نظر المجلس العسكري عن أطماع جماعة الاخوان المسلمين السياسية، ليأتوا بمرشحهم للرئاسة ليحكموا مصر لمدة عام، فإذ بهم يفشلوا فشلا ذريعا، ويتمرد عليهم غالبية الشعب، ليطيح بهم المجلس العسكري بعد أن لمس الجيش والشعب خطورة الإخوان. ثم تجيء بعدها أحداث الحرس الجمهوري ورابعة لتشعل من العنف والحنق والرغبة في الانتقام، لتتزايد معها العمليات الإرهابية، وتجعل ما حدث في دول أخري كابوسا مخيفا يخشاه المصريين، ومبررا كافيا للسلطة لإقصاء كافة أطياف المعارضة بحجة الأخطار التي تحدق بمصر.  

وجاء الرئيس السيسي ليلعب دور المنقذ والمخلص، وباتت البيئة التي آتت به رئيسا منتخبا متهيئة وداعمة لفرض مزيدا من القيود على الحريات.  وتحولت الدكتاتورية من سلوك حاكم فقط لمطلب شعبي، ولتؤكد كتلة مؤثرة من المصريين رفضهم للحرية.

ولكن لماذا ترفض تلك الكتلة المؤثرة الحرية؟

تُمارِس الشعوب حريتها في إطار من القانون والنظام. وتتمسك المجتمعات الحرة في سن قوانينها بمبادئ أخلاقية تحقق النفع والخير والسلام لكافة أفرادها لا تختلف باختلاف الأعراق والأديان والأجناس، وأخص منها على سبيل المثال قبول المساواة بين الناس في كافة الحقوق، وتحقيق العدالة الناجزة للجميع، وأداء الواجبات وتحمل المسؤوليات علي أكمل وجه، والتحلي بالأمانة والصدق والنزاهة والإنصاف والشجاعة والمثابرة والشهامة والمروءة والتواضع في كافة المعاملات، والكرم وحسن معاملة الغير ومساعدة المحتاجين. والقوانين تحكم المجتمع الحر ويلتزم بها أفرادها دون الحاجة لموائمات عرفية وتفسيرات واجتهادات من أهل الدعوة والفتوي في أمور الدين، أو من دعاة التفرقة العنصرية والمذهبية، أو من دعاة الفوضى والتخريب من أصحاب الفكر الأناركي.

إلا أننا اعتدنا تحت تأثير الألة الإعلامية والمنابر الدينية والخطاب السياسي لحكامنا أن نقلل من حجم تمسك المجتمعات الحرة بالقيم الأخلاقية. واختزلنا الأخلاق في تهميش حرية المرأة والتربص بهيئتها وتحقير حقوقها والتدني في توصيف علاقاتها بالجنس الأخر، وتشجيع زواج القاصرات، وتبرير التحرش بالإناث، والتضييق على من يشربون الخمر، واستحلال التعدي على حقوق غير المسلمين، والإذعان لولي الأمر وطاعته، وتقديس الجهات السيادية والشخصيات التاريخية الدينية. والحقيقة أن هذا التعريف الأخلاقي والذي وصفه البعض بالأخلاق الإسلامية لا يهدف إلا لكبت الحريات وإهدار الحقوق. ولا تختلف الكنيسة القبطية في تعريفاتها القاصرة عما يفعله الإسلاميون في مجتمعنا.

ومرة أخري لماذا ترفض كتلة مؤثرة من المصريين الحرية؟

يرفضون الحرية لأنها تعني أن تقبل حرية الأخرين. والرجل في مجتمعنا لا يمانع الحرية لنفسه ولكنه لا يريدها لزوجته أو لأبنائه. ونفس المفهوم للأخ مع شقيقته، والمعلم مع تلاميذه، والمدير مع موظفيه، والضابط مع جنوده، والأكبر سنا مع الأصغر منه سنا، والحاكم مع شعبه. ويعبر هذا الفكر عن ثقافات ذكورية وأبوية راسخة في مجتمعنا.

ويرفضون الحرية لأنها مقترنة في أذهانهم بالإباحة والعلنية. وهذا ليس بالضرورة نتاج فكر محافظ مؤثر على سلوكيات المجتمع وأفراده، بل هو بسبب حساسية المواطن المصري الشديد لنظرة المجتمع له. والحقيقة أن الكثيرين من المصريين يستبيحون لأنفسهم سلوكيات مشينة ترفضها المجتمعات الحرة ويمارسون تلك السلوكيات بعيدا عن الأعين، ثم يخرجون على الناس ليدّعوا لأنفسهم الفضيلة والاستقامة، ولينالوا من حرية الأخرين وتعديهم على قيم المجتمع. فنجد مثلا أن الكثيرين يشجبون العلاقات العلنية بين الرجل والمرأة، ولكنهم لن يمانعوا اغتنام الفرصة للتحرش بالمرأة أو اغتصابها سرا، أو أن يتزوجها عرفيا أو أن يقيم معها علاقة في السر.

ويرفضون الحرية لأنها تعضد حق الإنسان في اختيار عقيدته الدينية وإقامة شعائرها وممارسة طقوسها. وينحصر تفسير المجتمع لهذا الحق الدستوري في أن يكمن الأخر بعقيدته داخل قلبه دون أن تتاح له حقوق متساوية لممارسة عقيدته. بل أن الرفض المجتمعي لممارسات الغير تشمل المسلمين السنة أيضا في الكثير من الأمور أذكر منها تحجيب المرأة المسلمة، وملاحقة من يفطر في رمضان، والإصرار على صلاة الجماعة فور سماع الأذان، وختان الإناث، وتحريم زيارة القبور والأضرحة، وتحريم الاحتفال بالمولد النبوي وبموالد الأولياء الصالحين.

ويرفضون الحرية لأنها تزيد من عبء المسؤولية المجتمعية للفرد. فهناك فروق جذرية بين ممارسة الحرية وممارسة الفوضى. الحرية تمارس طبقا للنظام والقانون. أما الفوضى فتعني الخروج عن النظام والقانون. الحرية تزيد من تقبل الفرد الحر لحقوق الغير. أما الفوضى فتجعل من أهلها سالبين ومبتزين لحقوق الغير. الحرية تزيد من إرادة صاحبها وقدراته على الاختيار والتفكير والتعبير والحوار والممارسة. أما الفوضى فتشجع على استخدام البلطجة والعافية لفرض ما يريدونه على الأخرين. الحرية تعني التعاون بين أفراد المجتمع والحفاظ على المصلحة العامة. أما الفوضى فتعني الأنانية والاستعلاء وحب الذات وعدم الاكتراث بمصالح الأخرين. ونجد السلوك الفوضوي في قيادتنا للمركبات، وفي إلقاءنا للقمامة، وفي عدم احترامنا للدور عند نوافذ الخدمة، وفي استخدام مكبرات الصوت دون مراعاة لما نسببه من ازعاج للأخرين، وفي اللامبالاة لجودة الخدمة من جانب مقدميها، وفي النيل من سمعة الأخرين وعدم احترام خصوصياتهم.

ويرفضون الحرية لأنها تعني الاستقلالية والاعتماد على النفس وتّحمُل تبعات الأفعال وأثارها. وينجح المجتمع حينما يقوم كل فرد بمسؤولياته. إلا أن الكثيرين منا يخشون تحمل المسؤولية الشخصية بل ويرفضون تحمل عواقب ما يفعلون. ويسعي الكثيرون للتواكل بدلا من التوكل لإيعاز أنفسهم أن بلائهم مشيئة من الله سبحانه وتعالي وليس بسبب فشلهم، أو اهمالهم، أو تهورهم، أو رعونتهم، أو اهدارهم للفرص، أو تخاذلهم في العمل، أو عدم اتباعهم سبل الوقاية من المرض، الخ. والمصريون يخشون الاستقلالية ويفضلون الاتكال على الأخرين لتلبية احتياجاتهم. ونجد هذا النمط واضحا في انصياع الفرد للأب أو الزوج أو الشقيق الأكبر أو كبير العائلة أو العمدة أو الرئيس في العمل أو الحاكم. ولا أعتقد أن المصريين على قناعة بفكرة أن الشعب مصدر السلطات بل يفضلون التنازل عن هذا الحق لمن يملك السلطة.

ويرفضون الحرية لأنهم يعيشون في حالة مزرية من العوز تجعلهم لا يملكون إرادة الاختيار. وأتذكر هنا حينما ذكر عبد الناصر في إحدى خطبه "من لا يملك قوت يومه لا يملك حريته". إلا أنه في ظل أنظمة الحكم المتتابعة في مصر ازدادت نسبة وشدة الفقر، وبات المواطنون يجدون في الحرية ترفا وانحسرت اهتماماتهم في توفير لقمة العيش.

ويرفضون الحرية لأن منهم من هم أصحاب أعمال ومشروعات ومهن يخشون عدم رضاء مؤسسات الدولة عنهم، ويسعون لتبعية الإرادة السياسية والأجهزة الأمنية حرصا منهم على حماية مصالحهم.  

ويرفضون الحرية لأنها تستلزم ضرورة تخلصهم من الخوف على أمنهم. والإنسان الأول خُلِق حرا ولكنه من اللحظة الأولي أدرك حاجته لأن يؤمن حياته وقوته وايواءه بنفسه. ومع بدء التجمعات البشرية ظهرت الحاجة للتعاون والاعتماد على الأخر وتوزيع الأدوار والتوافق حول أعراف تحقق الأمن والحرية لجمع من البشر. إلا أنه مع ظهور أنظمة الحكم ظهرت العبودية، وباتت الحرية ترفا يتمتع بها القلة من الأسياد والصفوة يدّعون سطوتهم بادعاء إنها هي ما تحقق الأمن والاستقرار لشعوبها. واعتمد الحكام منهم في سيطرتهم على تضييق مساحات الحرية للشعب، واستخدام البطش الأمني لتحقيق هذا. ولم تشفع الرسالات السماوية وظهور الأنبياء والرسل في تغيير ما فرضه البشر من أنماط للحكم. بل اعتمد الحكام على رجال الدين في استخدام البشر في أوقات السلم والحرب وفي عهود الفتوحات وبناء الحضارات. ولم تسلم الغالبية العظمي من البشر من حرمانها المستمر من الإمكانات والخيارات والمستوي المعيشي اللائق ومن حقوقها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.  وقد أدي ترجيح الأمن على حساب الحرية إلي انتشار ظاهرتي الفقر والفساد في فترات تاريخية كانت ثروات وموارد الأرض كافية لتلبية حاجات البشرية كافة.

ومع إعادة سعي الإنسان عن قيمة الحرية وجدواها على البشرية خلال القرون الستة الماضية، شهد هذا العصر بدايات تطور فكرة المدنية الإنسانية وما استتبعها من أنشطة الدفاع عن حرية التفكير والتعبير وكرامة الإنسان والمساواة في الحقوق. كما تولدت أفكاراً ومناهجا حول نشأة الأطفال نفسيا وجسدياً، وكيفية تصرف المواطنين بشكل أخلاقي، وإلغاء العبودية، ومساواة المرآة بالرجل في الحقوق، ونبذ كافة أشكال التفرقة العنصرية، وكيفية ضمان النزاهة في المناصب الحكومية والعامة، والفرق بين ما هو مفيد عمليا وبين ما هو صالح أخلاقيا.

إلا أنه مع التطور الحضاري الذي شهدته مصر منذ تولي أسرة محمد علي حكم البلاد، لم يواكب هذا التطور اهتماما كافيا لتنمية الانسان. واختصرت جهود التنمية البشرية على قلة قليلة من المصريين. واستمر تجاهل الحكام للبشر، وبات تراجعنا واضحا في مجالات تنمية القيم الأخلاقية الانسانية والسلوكية والاجتماعية والمعرفية والعقلية والجمالية والشخصية. وفي عهد الجمهوريات كان تركيز الحكام فقط على القيم الوطنية والتي من خلالها يستطيع الحاكم حشد السخرة لصالح أهداف تخدم استقرار النظام الحاكم علي حساب مصالح الشرائح المكونة للمجتمع المصري.

وبالرغم من مجيء الرئيس الحالي بعد ثورتين إلا أنه استمر في سياسة تسخير المواطن بدلا من تحريره. إلا أن ما لا يدركه الرئيس والمؤيدين له أن السخرة قد تحقق أهدافا مؤقتة ولكنها لا تبني وطنا. ومصر لن تتقدم وأبنائها لن ينعموا والسلام المجتمعي لن يتحقق إلا بشعب من الأحرار.  فهل هناك من يؤمن بحق المصريين في الحرية حتي لو كانت هناك كتلة مؤثرة مازالت ترفضها؟

 

 

 

 

التعليقات