البشر والحجر
هربًا من ملطمة نقاب/ حجاب/ انقشاع سحاب حلا شيحة وملطمة السلفيين والإخوان، وبعيدًا عن «نمبر وان» «الملك» أيقونة التكاتك ومحبوب البلطجية فى طور التكوين، وفى هدنة من «تحدى كيكى» وانتفاضة إدارة المرور ضدها رغم أنف فوضى السير وعشوائية الطرق الكاملة المتكاملة، نعود إلى العنصر البشرى المصرى الذى ينتظر من يحنو عليه إنقاذًا أو غوثًا أو حتى تنقيحًا.
النسخ المنقحة من النتاج الطبيعى لتجريف تعليمى وثقافى وسلوكى وأخلاقى عقودًا طويلة مضت ينضح بها الشارع المصرى. هى تشكيل وجدانى يرتكز على منظومة «اللمبى» التى صنعها الممثل محمد سعد بمخارج ألفاظه المشوهة وبطلجته الممزوجة بعشوائيته ثم أضيفت إليه خلطة الممثل المنقلب مطربًا محمد رمضان ونموذج البلطجى العصامى ويده العليا المسيطرة على الشارع المصرى، والنتيجة عنصر بشرى يحتاج صقلاً وتطهيرًا و«صنفرة» عميقة.
عمق المشكلة البشرية فى مصر متعدد الأبعاد. فالمسألة ليست مجرد نظام تعليمى فقد كل أركانه من ثقافة وتنشئة وتربية وعلم وسلوك، ولم يبق سوى على هيكل مهترئ من الحشو منزوع الفكرة ولا يخلو من إطار دينى مشوه صنعه بحنكة وخبث أدمغة لم تكن تصبو إلا لما نحن عليه الآن من «بزرميط» سلوكى بمظهر خارجى يقول للقاصى والدانى «أنا ملتزم» «أنا ملتزم».
التزام المصرى بقواعد السير صار وهمًا وخيالاً. والتزامه بحقوق الغير على الطريق أصبح سطحية لا داعى لها. واحترام غيره فى طابور شراء تذكرة المترو أو دفع فاتورة أو الحصول على خدمة هو والعدم سواء. وترك الحمام نظيفًا بعد الاستخدام، أو الحديقة دون قمامة بعد الاستمتاع، أو عربة القطار دون زبالة بعد الوصول ضرب من الخيال. لكن ما إن يسمع صوت الآذان حتى يهرع ليكون فى مقدمة المصلين ظانًا أنه عمل ما ينبغى عمله ويزيد.
وزاد وغطى ما شبت وترتبت عليه أجيال هى حاليًا فى الثلاثينيات والعشرينيات من العمر تفصل فصلاً تامًا بين العبادات والمعاملات، وتستحل لنفسها التدخل فى شؤون الآخرين والانحشار بدافع الدين، وإصدار الأحكام على كل من هب ودب طالما أنه لا يشبههم.
أجيال بأكملها تظن أن مصر هى ما يرونه فى الشوارع من قبح معمارى، وقذارة ناجمة عن تلال قمامة، وفوضى عارمة حيث إيقاف السيارات فى أى مكان ومحطات ميكروباصات فى مطالع ومنازل الكبارى وأمين شرطة يلوح بدفتر المخالفات عقوبة لمن يمتنع عن دفع الجباية، وصخب من أغان وتواشيح وصراخ يصم الآذان بدعوى الحرية الشخصية، ومناور عمارات عبارة عن مقالب قمامة ومزارع حشرات وزواحف، ومدارس لا تخرج عن كونها مبانى لا يٌحصَل فيها العلم لكن تُحصل فيها المصروفات لدخول الامتحان، ومعلم لا يتوانى عن زرع فتنة طائفية بدعوى حماية الدين، وأسر لا حصر لها تعتقد أن تنظيم الأسرة حرام، ومرممين يعتقدون أن طلاء تمثال بالهباب هو شكل من أشكال التجديد، ومتعلمين يؤمنون بأن النحت حرام وعرائس الأطفال حرام ودخول الحمام بالقدم اليمنى مكروه إلى آخر أشكال التجريف البشرى والقبح الإنسانى الذى نراه ونعيشه ويلطخنا على مدار اليوم كل يوم.
وكل يوم يرى المواطن إنجازًا ضخمًا على الطريق: مدن سكنية تشيد، طرق قومية تٌنجز، مشروعات كبرى تٌبنى، لكن الخوف كل الخوف مما قد تؤول إليه هذه الإنجازات الكبرى على أيدى المستفيدين.
طريق يتكلف مليارات يجد نفسه واقعًا بين شقى رحا: سيارات نقل مخالفة تعيث فيه فسادًا وتكاتك وتروسيكل لا وجود لها فى دفاتر الحكومة تنشر فوضويتها وعشوائيتها عليه، ناهيك عن عدم إلمام قطاع عريض من سائقى المركبات بأنواعها بقواعد السير من الأصل. عاصمة جديدة مبنية على أحدث الطرز وميزانيتها تساوى ميزانية دول صغيرة بأكملها ينتقل إليها سكان وموظفون وعمال يعتقدون أن الشارع مقلب للقمامة، وهلم جرا.
لقد حان الوقت، أو بالأحرى حان الوقت منذ سنوات، للالتفات السريع للعنصر البشرى المصرى، وإلا تحولت الإنجازات عشوائيات وأصبحت الطرقات كغيرها تكاتك وتريلات وسيارات دون لوحات أرقام ولعبة سيارات متصادمة.
مساران متزامنان ينبغى أن ننتهجهما: التفات إلى التربية والتنشئة والتعليم للقادمين الجدد لوقف نزيف الأخلاق وغيبوبة السلوكيات مع تطبيق آنٍ للقانون بكل حسم ودون تفرقة بعد تأهيل مطبقى القانون وتدريبهم وأيضًا مراقبتهم أثناء التطبيق.
البشر والحجر يسيران متوازيين، فإن سبق أحدهما الآخر أفسده.
** عن المصري اليوم