الخيال قبل المال دائما
يعتقد البعض أن الأخوين ساويرس (نجيب وسميح) يضخان أموالا فيحصدان نجاحا، يقدمان السبت فيجدان الأحد واقفا على الباب يأخذهما بالأحضان وينهال عليهما بالقبلات، المال من المؤكد هو بمثابة البنية التحتية لأى مشروع وبدونه سينهار كل شىء، ولكن قبل كل ذلك يلعب الفكر دوره، فهو الذى يخطط، محققا الحلم الذى يقفز فوق حواجز وحدود الواقع، وهكذا نجد الأخوين (ساويرس)، قد منحا الحرية الكاملة لفريق العمل انتشال التميمى وعمرو منسى وأمير رمسيس وبشرى وغيرهم، لم يتدخلا إلا فى تخطيط السياسة العامة، وبقيت التفاصيل فى اختيار الأفلام والمكرمين والمحاضرات والمشاريع وغيرها فى أيدى المختصين، ليبقى مهرجانا مصريا بحق وحقيق، متجاوزا عائلة المؤسسين والداعمين الأكبر له، وهذا يفسر لك لماذا حرص الرعاة على اللحاق بقطار النجاح، والمساهمة المادية فى فعالياته، كل منهم أراد قضمة مشروعة من (تورتة) النجاح وهو ما رحب به (آل ساويرس).
كان رأيى ولايزال أن هذا المهرجان الوليد هو الداعم الأكبر لاستمرار مهرجان القاهرة السينمائى الدولى العريق، الذى يحتفل بعد 60 يوما بدروته رقم 40، وأن الدولة عندما تحمست للكاتب والمنتج محمد حفظى لتضعه كواجهة شابة وفاعلة لمهرجان القاهرة فى الدورة القادمة كانت تعلم جيدا أنها ينبغى أن تحافظ على المهرجان الأم عنوان المحروسة فى العالم، وأن (الجونة) يلعب فى مساحة أخرى، ويقدم رسالة للعالم كله تقول إن مصر بلد الأمن والأمان والدفء والحب وأيضا السينما.
بالمناسبة ليس بالضرورة أن نرى كل شىء جميلا وممتعا، فأنا مثلا بقدر ما أعجبنى فى حفل الافتتاح مزج الأغنية التى شارك فيها عدد كبير من نجومنا وشاهدناهم على الشاشة، ثم تحركوا فى الصالة المفتوحة وصعدوا على خشبة المسرح، بقدر ما أزعجنى فيلم الافتتاح الفرنسى (سنة أولى) إخراج توماس ليلتى، الذى تم اختياره لأنه العرض الأول عالميا، هذا فى الحقيقة لا يكفى أبدا كمبرر لضربة البداية، خاصة أن المهرجان به العديد من الأفلام الأكثر متعة وجاذبية وجمالا، وهكذا وجدت أن من صمدوا حتى النهاية فى صالة العرض، لم يزد عددهم عمن شاركوا فى تمثيل الفيلم الفرنسى على الشاشة.
توقفت بإعجاب لاختيار الثلاثة الموعودين بالجائزة الذهبية للإنجاز، مصريا داوود عبدالسيد وعربيا المنتجة التونسية دُرة بوشوشة وعالميا النجم الجماهيرى سلفستر ستالون، الذى سيتم تكريمه الجمعة القادمة فى حفل الختام.
دعونا نتأمل فى تلك العجالة المخرج داوود عبد السيد، الذى يطلقون عليه بين السينمائيين حكيم الجيل.
امتلك داوود ميكروسكوباً وتليسكوباً معاً، يقترب بالميكروسكوب من التفصيلة الدقيقة ليصنع منها عالماً مترامى الأطراف.. وفى نفس الوقت فإنه بنظرة من خلال التليسكوب يرى الكون كله فى لقطة واحدة، إنها براعة سينمائى قرر أن يمزج وجدانه مع أحاسيس الناس، ويحيل كل ذلك إلى أفلام تحتل مكانة دائمة فى وجداننا، بعقل الميكروسكوب وقلب التليسكوب!!.
تأخر كثيراً دخول داوود لعالم السينما الروائية، فهو خريج دفعة 1967 فى معهد السينما المصرى كان من بين زملائه على نفس «التختة» على بدرخان وخيرى بشارة.. بينما بدرخان أخرج عام 73 أول أفلامه «الحب الذى كان» وبشارة 82 «العوامة 70»، كان داود ينتظر الفرصة، سنوات الانتظار أحالها إلى فعل إيجابى يزيد من شغفه بالتأمل، منحت تلك السنوات داوود القدرة على طرح ثمار ناضجة.. وكانت أولاها «الصعاليك» 1985 رؤية عميقة لما كان يعرف وقتها نقديا بسينما الانفتاح، إلا أنه قدم لمسته الخاصة وزاوية رؤيته العميقة، ويصمت بضع سنوات ليقدم «البحث عن سيد مرزوق» يتناول بنعومة وهمس فنى علاقة الإنسان بالحياة والخالق الأعظم.
ثم يأتى أكثر أفلامه شعبية والذى من الممكن أن تصبح مشاهدته مضادا حيويا موجها ضد الاكتئاب، إنه «الكيت كات»، الفيلم الثامن عربيا فى قائمة الأفضل، يمتزج فيه مرح الطفولة بالشقاوة والذكريات الجميلة فى كلمة درجن.. درجن.. درجن.. درجن.. التى يرددها محمود عبدالعزيز مع اقتراب نهاية أحداث الفيلم، وما أشد حاجتنا لكى نحلق بعيداً مع هذا الفيلم درجن درجن درجن درجن، ويأتى درة التاج (أرض الخوف) لنشهد العلاقة بين الإنسان والقدر والجنة والنار والمسير والمخير، بدون أن تفلت منه كلمة واحدة مباشرة.
داوود يطبق فى علاقته بالنص الأدبى فى فيلميه المأخوذين عن روايتى «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان التى صارت «الكيت كات» و«سارق الفرح» لخيرى شلبى التى احتفظت بنفس الاسم. يطبق داوود قاعدة الافتراس، فهو لا يلتزم بالرؤية الأدبية بل يلتهم ويهضم الرواية تماما قبل أن يحيلها إلى فيلم!!.
قدرة داوود على أن يضع نجومه فى مناطق إبداعية ووهج وألق خاص هى واحدة من أدواته، هكذا مثلا رأيت آسر ياسين فى «رسائل بحر» محققا درجة حميمية عالية جداً مع الكاميرا تنقل إلينا قدرة على التلوين الحركى والنفسى فى أداء درامى لواحدة من أدق الشخصيات المرسومة درامياً، فهو يحتفظ بالبراءة التى لم تلوثها قسوة الزمن ـ وأيضا بسمة أمسكت بمفردات الشخصية فى اقتصاد وتكثيف، صار عليها أن تمثل أنها تمثل، والتعبير عن الاحتياج العاطفى أكثر مما هو احتياج جنسى، وتلك واحدة من إنجازات داوود!!.
الحصيلة التى قدمها لنا حتى الآن ثمانية أفلام روائية.. تعيش فينا أكثر مما نعيش معها، تشاهدنا قبل أن نشاهدها، ولا أتصور سوى أن جائزة مهرجان (الجونة) التى تحمل صفة الإنجاز سوى أنها تحمل رغبة كامنة لداوود لإنجاز ما بعد الإنجاز!!.
(المصري اليوم)