«الواجب» نار تحت الرماد!
لو كنت حريصا أن تُطل برؤية محايدة على السينما فى عالمنا العربى، فإن لديك مهرجان (مالمو)، يحقق لك الهدف وبحياد تام، باختياره الأفضل بين العديد من الأفلام، وليس لديه حسابات أخرى أو مسبقة فى تكوين أعضاء لجان التحكيم، ولا فى توجههم الفنى والفكرى، أقول ذلك عن خبرة سابقة، فلم يحدث أن أوحى رئيس المهرجان ومؤسسه محمد القبلاوى - ولو من بعيد لبعيد- بشىء من هذا القبيل.
تعلن مساء الغد نتائج المسابقات الثلاث: الروائية والتسجيلية (الوثائقية) وأيضا القصيرة. أتصور أن فيلم (الواجب) الفلسطينى هو الأقرب لنيل الجائزة الكبرى فى مسابقة الفيلم الروائى الطويل، كما أنه من الممكن أن يكرر المناصفة بين الأب (محمد بكرى) وابنه (صالح بكرى) لنيل جائزة أفضل تمثيل.
الشريط خاص وحميم وهادئ على السطح، إلا أنه متأجج بالنيران تحت الرماد. لا توجد ترجمة صادقة بأى لغات العالم لمفردة (الواجب)، فهو يقف على تخوم المنطقة الفاصلة بين القانون والعرف والتقاليد، يحمل ظلالا أبعد وأعمق من القانون يفرضها المجتمع على كل من يعيش تحت مظلته. الابن المهندس العائد من إيطاليا فقط لإنجاز تلك المهمة، حيث يتم توزيع دعوات فرح شقيقته على الأهل والأصدقاء فى مدينة (الناصرة)، التى تحتلها إسرائيل، وتبدأ رحلة الأب والابن لتحقيق هذا الهدف.
الفيلم الروائى الثالث لآن مارى جاسر، بعد (ملح البحر) و(لما شفتك)، نجد فى أفلامها الثلاثة فلسطين حاضرة بقوة، ورغبتها الدفينة فى تحقيق العدل والسلام، وأن يعيش الفلسطينى بكرامة هو هدفها الأسمى.
الأوراق الثلاث على مائدة الفيلم هى: أب وابن وكروت دعوة للفرح، رغم أننا نعيش زمن المحمول والكمبيوتر اللذين طرحا بدائل أخرى أبسط وأسهل وأسرع إلا أنه (الواجب). الشريط فى قالب (سينما الطريق) ليسمح بلقاء العديد من الشخصيات فى مكان وزمان محددين، وكأن المخرجة أرادت أن تقترب أكثر لرسم بورتريه للمجتمع بكل أطيافه ونوازعه المعلنة والمكبوتة، فاستبدلت بفرشاة الفنان التشكيلى الكاميرا، «مارى» مدركة أن الملل سيصيب المشاهد فى مقتل، لو أنها قدمت كل الشخصيات بنفس الإيقاع.. أب يصطحب ابنه ويدق على الأبواب، إلا أنها اخترقت هذا الثبات بسلاح التنوع فى الأعمار والمهن والفكر بين كل الشخصيات التى نلتقيها، ودائما لديها فى كل لقاء عنصرا المفاجأة وخفة الظل.
المخرجة لا تملى قناعتها على الجمهور عاطفيا أو سياسيا، تسمح لنا بهامش من الحرية لتظل الكرة فى ملعبنا وكأننا نعتلى منصة القضاء ولسنا فقط شهودا على الواقعة، مثلا الأم التى لم نرها ولكننا نعلم أنها هربت مع عشيقها لأمريكا وتزوجت ولم تكمل الحياة فى (الناصرة) ولم تفكر لحظات فى مصير ابنها وابنتها والفضيحة التى ستتكبدها الأسرة، هل هى خائنة أم أن هناك تفاصيل أخرى فى الحكاية تجعلنا حتى لو لم نمسكها فى أيدينا نتشبث بها ونبرئ ساحتها؟.
ويبقى العلاقة مع الإسرائيلى الذى يعتبره الابن جاسوسا وخائنا، بينما الأب يضعه فى خانة الأصدقاء الذين ينبغى دعوتهم للعرس، كان حريصا على التأكيد على أنه لا موقف ضد اليهودية كديانة ولكن هناك حائطا صلدا اسمه الاحتلال واغتصاب الأرض وخضوع المغتصب لقاتله، وقناعة الأب بأن الواقع الذى لا يمكن تغييره، علينا أن نتعايش معه، الأب يناضل للحصول على الممكن، بينما الابن ينشد المستحيل، حتى لو كان الثمن ضياع الممكن!!.
الصدام بين الابن والأب حسمته المخرجة أيضا بالتعايش، حيث يشعل كل منهما سيجارته فجرا فى النهاية وهما يحتسيان القهوة معا.
قدمت قبلها للجمهور جدلا مباشرا بين الأب وابنه حول كل المناطق المنزوعة اليقين بينهما وعلى مختلف الأصعدة سياسيا وفكريا، إلا أن هذا الجدل كان يدور أيضا فى أعماقنا، لم يكن من المنطقى سينمائيا فضحة و(على بلاطه)، المشهد الطويل الزاعق غاب عنه مع الأسف الهمس فى التعبير بالصورة والكلمة والموسيقى، ومن الممكن حذفه كاملا. حرصت المخرجة على أن تُقدم (الواجب) بأسئلته العويصة، ثم أرادت أن تترك لنا فى النهاية ورقة الإجابة خاوية لنحلّ (الواجب) بدون (برشامة)!!.
(المصري اليوم)