كيف أكتبُ عن «عيد الحب»؟!

فى يوم خريفى من عام ١٩٨٨، مرَّ نعشٌ لا يسير وراءه إلا رجالٌ ثلاثةُ! فاندهش رجلٌ مثقفٌ وسأل المارّةَ عن المتوفى الذى خلت جنازتُه من الُمشيّعين! فعلم أنه عجوزٌ فى السبعين، عاش عمرَه دون أن يحبَّ أحدًا، فلم يحبّه أحدٌ، ولم يحزن لفراقه أحدٌ. حزن المثقفُ وقرّر فى نفسه أمرًا. حدثت تلك الواقعةُ فى مثل يوم، أمس، ٤ نوفمبر، وأما المثقف الكبير، فكان «مصطفى أمين» الذى أسرع إلى مكتبه بجريدة الأخبار، وكتب فى عموده الصحفى: «فكرة»؛ يستأذن قرّاءَه فى إطلاق ذلك اليوم عيدًا للحب، لكلّ مَن نسى الحبَّ، حتى نتذكّر ونُذكِّر بعضنا البعض بتلك القيمة الهائلة فى حياتنا، التى لو غابت عن قلوبنا، نتحول إلى مجموعة من الهمج والوحوش. وكان «عيد الحب المصرى» الذى تجاوز «عيد الفلانتين» إلى رحاب أوسع مدًى من مجرد العشق بين رجل وامرأة، إلى عشق الإنسان لكل البشر، خصوصًا لمن لا تربطنا بهم روابط معرفة أو مصلحة، أو قرابة أو عمل. الحبُّ فى إطلاقه لله ولخلق الله.

فهل يجوز لى أن أكتب عن عيد الحب الذى مرَّ علينا حزينًا بعد الحادث الإرهابى الخسيس الذى وقع الجمعة الماضى، واستشهد فيه مُسالمون عُزّلٌ من أشقائنا المسيحيين فى المنيا كانوا يُصلّون، ويدعون الله لمصر ولأبناء مصر؟!

الحبُّ العامُّ لكل الناس، قيمةٌ عليا لا يدركها إلا ذوو العزم الأتقياء. فأنت حين تحبُّ أطفالَك وأقرباءك، تشبه القطةَ التى تحبُّ أولادَها ثم تفترس الفأر، وتشبه الأسدَ الذى يحنو على أسرته، ثم يفترس الظِّباء. ولكى تعلو درجةً عن مرتبة القطة والأسد والحيوان، وتستحق لقب: «إنسان»، فعليك تجاوُز عشيرتك ليُظلّل حبُّك مَن لا تعرف. فى هذا يقول الألمانى «مارتن لوثر»: «الإنسانُ العادى يتوافق مع الجماعة التى ينتمى إليها. أما الإنسانُ الفائق؛ فيشعر بانتمائه للبشرية جمعاء؛ فيتجاوز حدودَ جماعته؛ ليخاطب الإنسانيةَ كلها بلغة الحبّ».

مرّ علينا عيدُ الحبِّ، والحبُّ غائبٌ! أين فرّ؟ وكيف سمحنا له أن يفرّ؟! لصالح مَن تركنا البغضاءَ تنتعشُ فى الوطن الطيب؟

الكراهيةُ مرضٌ قاتل، الحمد لله أن عافانا منه. إن لم نحبّ بعضنا البعض، بأى عين نطلب من الله أن يُحبّنا؟ الحبُّ هو الَملَكة السماوية التى أمرنا اللهُ بها وزرعها فى قلوبنا. لكن بعضنا أمعن فى قتلها داخل روحه فراح يقتل أحدُنا الآخر، دون جريرة إلا الاختلاف فى الفكر. والاختلاف رحمةٌ وثراء، لو يعرفون.

يُحكى أن الملكَ الفارسى أنوشيوان أعلن عن جائزة قدرها ٤٠٠ دينار لمَن يقول كلمة طيبة، غير مسبوقة. ثم تجوّل فى أرجاء مملكته بصحبة حاشيته. فشاهد فلاحًا عجوزًا تخطّى التسعين، يغرس شجرة زيتون. فسأله الملكُ متعجّبًا: »هل تغرس شجرةً لن تأكل منها، إذ تحتاج إلى عشرين سنة حتى تُثمر، وأنت طاعنٌ فى العمر، ودنا أجلُك؟! فقال الفلاحُ: «زرع السابقون؛ وحصدنا. كذلك نزرعُ ليحصد اللاحقون». فقال الملكُ: «هذه كلمةٌ طيبة». وأمر له بأربعمائة دينار.

لا أشفقُ على أحدٍ قدر إشفاقى على مَن حرموا أنفسَهم من تلك المتعة الهائلة: «محبة الناس». فـ«المُحِبُّ المانحُ» يستمتع بحبّه وعطائه أكثر مما يستمتع «المحبوب الممنوح». لو يعرف الباغضون هول النعمة التى حرموا أنفسَهم منها، لتعجّبوا من قسوتهم على أنفسهم.

أولئك لا يتذكّرون قيمة الحبّ إلا لحظة الضعف والانكسار. يشبهون العقربَ الذى شاهده حكيمٌ جالس على ضفة النهر. وقع العقربُ فى الماء، وراح يتخبّط محاولًا النجاة من الغرق. مد الحكيم يده لينقذه، فلسعه العقرب. صرخ العجوز من الألم، لكنه مدّ يده من جديد، فلسعه العقربُ مجدّدًا. وحاول مرة ثالثة، حتى وبّخه صيادٌ قائلا: «ألم تتعظ يا رجل»! فلم ينصت العجوزُ للصياد، وكرر المحاولة حتى أنقذ العقرب. ثم سار إلى حيث يجلس الصياد، وربت على كتفه قائلا: «طبعُ العقرب أن يلسع، وطبعى كإنسان أن أحبَّ، وأغيثَ الملهوف، فهل أسمح لطبعه أن يغلب طبعى؟». أحبّوا تصحّوا.

كل سنة والأشرارُ طيبون، والطيبون أكثرُ طيبة.

التعليقات