مطلوب أكثر من قارب فى المحيط

لا أحد فى العالم العربى لديه الوقت ليذرِف الدموع على الآخرين.. فى كلِّ العالم العربى -تقريباً- أزمات ومعضلات. لكلٍّ همومه ودموعه.. ولكلٍّ أوجاعه وأحزانه. لا أمن ولا اقتصاد.. إنّها أرض الجوع والخوف.

يحتاج المشروع السياسى العربى إلى مشروع حضارى عربى.. من دون رؤية حضارية شاملة.. لا يمكن إدارة أزمةٍ تاريخيةٍ كبرى بهذا الحجم وعند هذا المستوى.

يتحدث كثيرون عن الأزمة القائمة فى سوريا واليمن وليبيا.. وغيرها. ولكن لا أحد يتحدث عن تلك النخبة التى يمكنها أن تنتشل البلاد من الفوضى وأن تقطع بها طريق المستقبل.. فيما لو انتهت الحرب. إن هذه الدول وغيرها تحتاج إلى طبقة جديدة.. من الاقتصاديين والمصرفيين، من الأطباء والمهندسين، من الأكاديميين والفنيين، من القانونيين والمدرسين.. إلى نخبةٍ كاملة يمكنها إدارة البلاد.

إن السؤال الآن: ما هى الطبقة المصرفيّة التى يمكنها إدارة الجهاز المصرفى فى ليبيا.. من البنك المركزى إلى بنوك القطاع الخاص والبنوك الأجنبية؟ وما هى الطبقة القانونية التى يمكنها أن تشكِّل هيكل العدالة من محاماة وقضاء؟ وما هو حجم التكنوقراط الليبيين الذين يمكنهم إدارة السياسات العامة فى «ليبيا المستقبل».. من صحةٍ وإسكان وتعليم؟ وما هو مستوى وما هى إمكانات الطبقة الأمنية المقبلة من قادة وضباط وأفراد.. فى القوات المسلحة وفى وزارة الداخلية؟

إن الأسئلة تمتدُّ إلى القوة الناعمة الليبية.. ما هو وزن النخبة الأدبية من روائيين وسينمائيين ومسرحيين.. ومن شعراء وصحفيين وممثلين؟.. وإلى أى مدى توجد تلك النخبة الإبداعية القادرة على صناعة ليبيا التى يستحقها الليبيون؟

إن فى ليبيا شعباً عظيماً.. وفى نخبتها أسماء مرموقة بارزة.. وبعضها وصل إلى مستوى العالمية فى المكانة والتقدير.. ولكن ما أعنيه هنا.. ليس هذه العبقريات الفرديّة الليبية.. وإنما النخبة العريضة الليبية التى يمكنها «إعادة الإعمار».. أو بالأحرى «البناء من جديد».

إن عصر الرئيس القذافى كان سيئاً وما بعده كان سيئاً أيضاً.. ومنذ الملك إدريس السنوسى.. تتخبَّط السياسة الليبية ذات اليمين وذات اليسار.. وفى عقود التخبّط ضاعت ثروة عملاقة كان يمكنها أن تجعل من ليبيا «سويسرا الثانية» فى العالم المعاصر. إن ما يمكن أن نقوله عن ليبيا.. يمكن تكراره فى اليمن.. ويمكن تكراره فى أكثر من بلدٍ عربىّ.

إن السؤال الآن.. وماذا لو وضعت الحرب أوزارها؟.. ماذا لو سكت الرصاص؟.. هل من أحدٍ جاهز للبناء والتنمية؟

حين كانت اليابان تنهار فى الحرب العالمية الثانية.. كان هناك من يستعد لاستعادة القوة.. بعد الاستسلام. وحين كانت ألمانيا تنتهى.. كان هناك من الألمان من يتجاوز مأساوية اللحظة.. ويفكر فى حقبة ما بعد الحرب.

لقد تحركت اليابان وألمانيا نحو المستقبل.. بينما الأنقاض لا تزال تقطع طريق المارّة وتدفن ملايين الناس. بعد أربع وعشرين ساعة من الكارثة.. كان هناك من يمسحون الدموع سريعاً.. ويبدأ عملية «استعادة الأمل».

إن العالم العربى.. يواجه تحديات مروعة.. ومتجاورة. ولا يمكن إدارة المستقبل.. بينما لا نفعل شيئاً سوى انتظار نهاية الحرب. التخطيط يبدأ من الآن.. بينما الحرب لا تزال تقتل الأمل.. يجب أن تكون هناك نخبة أكبر من المشهد وأقوى من اللحظة.. نخبة تتجاوز المضارع.. وتقف فى قلب المستقبل.

إن تسونامى العالم العربى حطَّم معظم شواطئ أوطاننا.. وإنَّ «قارب نجاة» واحد لا يكفى للإنقاذ. إن إنقاذ ثلث المليار عربى يحتاج إلى أكثر من قارب فى المحيط.

التعليقات