قدسية غير المقدس
لا المسألة شخصية، ولا الغاية هدم الدين أو تغيير العقيدة أو تدمير الأمة.
ولا المنتقدون أعداء الدين، ولا المتسائلون هم من أتباع الديانات الأخرى أو الطوائف المغايرة التي تغار منا، وتقوم، وتنام، وتنام، وتقوم- على حلم أوحد، قِوامه دكُّ أوصال كتلتها الصلبة المتجمدة.
ليس هذا فقط، بل يمكن القول إن صلابتنا هذه وتجمدنا ذاك يتحملان جانبًا معتبرًا مما نحن فيه.
ومنذ أعاد الرئيس السيسي إشارته للمرة الخامسة أو السادسة إلى حتمية تنقيح أو تحديث أو تجديد الخطاب الديني، وما يتسلل إلى قلوب وعقول وعيون الكثيرين من مقاومة أو ممانعة أو منافحة ممن بأياديهم القيام بالمهمة، والدنيا مقلوبة.
وجزء من مقلوبية الدنيا يعود إلى أن البعض- ممن هم مصريون عاديون، لا هم بالإخوان ولا هم بالسلفيين بتشكيلاتهم وألوانهم- ينتابه الخوف، ويتمكن منه الرعب إن ظهر في الأفق سؤال أو انتقاد أو ملاحظة تحمل شبهة نقد لمؤسسة دينية كالأزهر أو الكنيسة.
هذا البعض يحصن المؤسسات الدينية التي هي من صنع الإنسان، ويعمل فيها الإنسان، وتقوم على خدمة غيره من البشر الذين يفترض أن تسهم في تيسير حياتهم وتذليل صعابهم- ضد التحاور أو النقد.
التفكير النقدي في العرف الثقافي المصري مكروه مذموم منبوذ. وهذه الكراهية لا تقتصر على المسائل الدينية فقط، لكنها تبدأ بالبيت، وتمر بالمدرسة والجامعة، وتنتهي بالعمل.
وفي سنوات "هسهس" التديين، التي شهدت انتفاخة غير مسبوقة لمظاهر التدين على حساب الدين نفسه، أصبح نقد أو مناقشة أو مجادلة رجال درسوا علوم الأديان أمرًا جللًا، يصل أحيانًا إلى درجة الكفر، بل قد يجد المنتقد نفسه موضوعًا بقدرة قادر في خانة الملحد، أو ناكر الدين، أو مدعي دين جديد.
والغريب أن هذه الاتهامات غالبًا ما يقوم بها الأفراد العاديون الذين يتبرعون بصبغ رجال الدين بصبغة مقدسة تمنع الاقتراب، وتحرم الانتقاد، وتحظر السؤال، ولو من باب البحث عن الحقيقة.
والحقيقة أن بين هؤلاء الذين أضفوا كهنوتًا على من لا كهنوت له ضحايا؛ فمنهم من تربى على الخوف والترهيب من تشغيل العقل.
ومنهم من نشأ على ثقافة "اسكت" العاتية التي لم تترك رجلاً إلا أرهبته، ولا امرأة إلا أفقدتها ثقتها بأنها من بني البشر.
ومنهم أيضًا من ورث رهبة النقد عن الآباء والأجداد. وكان من ضمن ما ورث وضع مرادفات الكفر والخروج عن الملة جنبًا إلى جنب مع الأسئلة التي يفرضها الزمان ويحتمها تغير الأوضاع.
أوضاع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لا تسر عدوًا ولا حبيبًا. ولا يخفى عن أحد أن المنطقة العربية بأغلبيتها المسلمة واقعة في حيصَ بيصَ بين اقتتالات داخلية، وصراعات طائفية، وكراهيات بين أبناء الملة الواحد، ناهيك من مشكلات عدة تتعلق بالأقليات غير المسلمة.
ولا يخفى عن أحد، كذلك، أن أوضاع الكثيرين من المسلمين ممن هاجروا أو هربوا أو نزحوا من بلاد المسلمين إلى بلاد غير المسلمين- ليست في أفضل حال، فمنهم من يعيش في "غيتو" مغلق حتى لا يختلط بغيره، خوفًا على ضياع العقيدة وتبخر الإيمان. ومنهم من يعيش منتفعًا بأجواء الحريات واحترام الغير، محاولاً فرض ثقافته الدينية وعاداته العقائدية، وإن عارضه قانون أو عرقلة دستور أقام الدنيا، ولم يقعدها عن حقوقه المُهدرة.
لكن بين مظلومية عن حقوق مُهدرة في الخارج، ونشر الإسلام في الخارج ومحاولات إعادة إحيائه في الداخل عبر فتح العقول والقلوب، نجدنا في شد وجذب.
لقد نجحت العقود الخمسة الماضية في إضفاء قدسية على رجال الدين وما يصدر عنهم وكأنه كلام أقرب ما يكون إلى القرآن. ليس المطلوب إهانة لأحد، ولا التطاول على مواقف أو آراء.
مطلوب تخليص الدين مما علق به شوائب أضرته، وفتح باب السؤال والنقاش والحوار وإلا تفاقمت قدسية ما لا قدسية له، وخسر الدين مما لا ينبغي أن يخسره.