صفحة «25 يناير» فى التاريخ
لو كانت هناك توصية واحدة لا ثانى لها من وحى مناسبة 25 يناير، فهى عدم إضافة أى صفحات فى كتب التاريخ، لا المدرسى ولا المعرفى ولا الاطلاعى فيما يختص بالمناسبة لحين إشعار آخر. وعلى الرغم من أن ذكريات الثورات والمناسبات، لا سيما تلك التى تجمع ملايين البشر، تكون فرصاً طيبة للمراجعات الوطنية والمحاسبات المجتمعية، إلا أنه، وبعد ثمانى سنوات من هبوب الرياح الشتوية فى يناير 2011، يفضل أن تبقى المراجعات شخصية والمحاسبات فردية.
فردية الرؤى المتعلقة بما جرى فى يناير 2011، والمواقف المشتعلة والملتبسة والمفتعلة وغير محددة الأصل، تقف حائلاً بيننا وبين تدوين ما جرى فى عام 2011 وما تلاها من أعوام. الكارثة الأكبر هى إدماج «الكتابات التاريخية» هذه فى مناهج التاريخ التى تدرس فى المدارس، وعلينا أن نعود بالذاكرة إلى العام الدراسى 2012/2013 الذى شهد الإقحام الأول لأحداث يناير وتقييمات فردية مدفوعة من وحى اللحظة. حذفوا رئيساً -بغض النظر عن أخطائه- وتعاملوا مع التاريخ من منطلق أن الدفاتر دفاترنا ومن حقنا كتابته كما نشاء. وقيَّموا أحداث يناير 2011 من وجهة النظر العاطفية السائدة حينئذ. حتى حرب أكتوبر تم تسييسها ومعاقبة من شارك فيها من منطلق الدفاع عن الثورة. وقد أيقن البعض أن ما يجرى من كتابة التاريخ إنما هو شكل من أشكال العبث وضرب من العشوائية، وإذا كنا ننظر هذه الآونة إلى حقب تاريخية سابقة من منظور مختلف، حيث نعيد النظر فى شيطنة هؤلاء وإضفاء صفة الملائكية على أولئك، فإنه من باب أولى أن ننأى بأنفسنا عن أية تدوينات تاريخية من شأنها أن تؤثر على من يقرأها. من يقرأ التاريخ يعرف جيداً أن السرد فيه الكثير من التسييس والمصالح؛ فقراءة تاريخ مصر مثلاً فى حقبة الملكية، أو ثورة يوليو 1952 قد تؤدى بالقارئ إما إلى الوقوع فى غرام الملكية أو لعن من كانوا قائمين عليها. والمعروف أن من يكتب التاريخ شأنه شأن الأديب والشاعر، فكلما تمكن من أدوات السرد وأتقن سبل الحكى وأسهب فى إضفاء النعوت والأوصاف بشكل مثير وجذاب، صدّقه القارئ. بالطبع هناك بين القراء من هو متيَّم بالتاريخ، أو مطلع على مصادر متعددة، أو لديه القدرة على التحليل والتفكير النقدى، لكن هؤلاء قلة. الأغلبية المطلقة، سواء كانوا طلاباً يدرسون التاريخ أو قراء يطالعونه بغرض التثقيف، يتعاملون مع ما يقرأون باعتباره أمراً مسلماً به. فكتاب التاريخ يفترض أن يكون مختلفاً عن تلك المواقع الحمقاء المتخصصة فى كتابة الشائعات أو حتى الرد عليها. كتابة التاريخ عمل توثيقى لا ينبغى أن يقوم به إلا المنزهون عن الأهواء الشخصية، أو التوجهات السياسية، وكذلك الغارقون فى تفاهات أو طرق تفكير سطحية تجعلهم غير مدركين لفداحة ما يفعلون.
وفى الذكرى الثامنة لثورة يناير وفى مناسبة عيد الشرطة نجد متخبطين ومتلخبطين كثراً. من يرى يوم 25 يناير سبباً للاحتفاء بثورة شعبية يعتبر الاحتفال بعيد الشرطة أو حتى الإشارة خيانة عظمى وتخلياً عن قيم ثورية. ومن يحتفل بعيد الشرطة يعتبر الإشارة لما جرى فى يناير 2011 هطلاً أو انعداماً للوطنية. ومن يقبل إحياء اليوم من أجل المناسبتين مجتمعتين فهو يجد نفسه قلة وسط أمواج متلاطمة من عدم اليقين والميل إلى التخوين لأتفه الأسباب.
ويبدو أن الغالبية من المصريين قد حسمت أمرها. فبمرور السنوات الماضية، وما حملته لنا من أثقال اقتصادية ودوامات سياسية وانكشافات إخوانية وسلفية وغيرها، جعل الغالبية تعلن وقوفها على الحياد؛ فلا هى محتفلة بهذا أو ذاك، يكفيها أن يكون يوم الخميس إجازة رسمية تحمل فرصة لفسحة عائلية هنا، أو زيارة لمعرض الكتاب هناك، أو حتى بقاء فى البيت للراحة أو مشاهدة التليفزيون.
حتى التليفزيون يجد نفسه واقعاً بين شقى رحا؛ فهو غير قادر على الاحتفاء بأحداث يناير، أو إخضاعها لمراجعات حيث اتهامات التخوين جاهزة، ومحاولة التضخيم حاضرة. أجزم أن القرار الشعبى الجماعى المتخذ هو اعتبار يوم 25 يناير يوماً كغيره من الأيام لحين إشعار آخر، وأتمنى أن ينضم هواة كتاب التاريخ والتأريخ لجموع الشعب حتى نصبح نفسياً وفكرياً جاهزين للتأريخ والتدوين دون أهواء تذكر أو ميول انتقام تحسب علينا وتنقلب ضدنا.