عبقرى «من غير ليه»!!
فى هدوء رحل مهندس الصوت فى الإذاعة المصرية زكريا عامر. أنا موقن بأن القراء لا يعرفون من هو هذا المبدع الكبير الذى غادرنا فى صمت يليق بالعظماء، الذين لا تعنيهم الأضواء، ولكنه لا يليق بنا ألا نلقى الضوء على حياة هؤلاء الذين جمّلوا حياتنا.
عرفت الهندسة الإذاعية، خاصة فى المجال الغنائى، اثنين من العباقرة، الأول هو الأستاذ نصرى عبدالنور ابن السينما واستوديو مصر، والذى كان كبار المطربين أمثال أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد وعبدالحليم وغيرهم، لا يمكن لأى منهم أن يستغنى عن لمساته الخاصة، والثانى زكريا عامر الذى ظهر بعد نصرى والذى استشعر كبار المطربين أنه يمنحهم لمسة عصرية لا غنى عنها.
آخر أغنية لأم كلثوم (حكم علينا الهوى) والتى سجلتها فى مطلع عام 1973 ولم تستطع لأسباب صحية تقديمها فى حفل، أشرف على تنفيذها زكريا عامر، إلا أن ذروة تلك الومضات الإبداعية أغنية (من غير ليه) التى صارت عنواناً للعبقرية فى مجال الصوت، وهكذا فى نهاية الثمانينيات جاءت فكرة تستطيع أن تُطلق عليها مجنونة، التقطها مجدى العمروسى الشريك الثالث لعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب فى شركة (صوت الفن)، وكان هو العقلية الاقتصادية والقانونية المدبرة لكل تفاصيل الشركة ومحل ثقة العملاقين، حتى إنه بدأ موظفا ثم صار شريكا، وبعد رحيل عبدالحليم ثم عبدالوهاب استحوذ العمروسى بمفرده على الشركة، الفكرة وهى البروفة الأخيرة التى جمعت بين عبدالحليم وعبدالوهاب، عود وصوت عبدالوهاب وهو يغنى (من غير ليه) وهمهمات فقط من عبدالحليم، من الواضح أنها كانت بروفة مبدئية يتعرف فيها عبدالحليم على بناء اللحن، لأنه لم يكن يردد الكثير وراء عبدالوهاب، ورحل قبل غنائها.
الفكرة ظهرت بعد نحو 10 سنوات من رحيل عبدالحليم. كنا فى نهاية الثمانينيات وعبدالوهاب كان أيضا فى نهاية الثمانينيات من عمره ومتوقفا عن الغناء قبلها بعشرين عاما، وجد مجدى أن نشر الأغنية الآن يحقق رواجا تجاريا، لو جاءت الدعاية المصاحبة تبشر بعودة عبدالوهاب للغناء، وحتى تكتمل الفكرة، يتم تسجيل موسيقى الأغنية مع الفرقة الموسيقية (الماسية) بقيادة أحمد فؤاد حسن، ثم مزج صوت عبدالوهاب الذى سجله عام 77 مع الفرقة، وعرضوا الأمر على زكريا عامر وبإمكانيات تقنية محدودة جدا، وبسرية شديدة، استطاع أن ينجز المطلوب،، وأضيف لها كخط دفاع فقرة فى برنامج (حديث المدينة) تقديم الصحفى والإعلامى الكبير مفيد فوزى، يجمع فيه بين الفرقة الموسيقية وعبدالوهاب، ونسمع ونشاهد جزءا من البروفات مصحوبا بعزف للفرقة وعبدالوهاب يشير إليهم، ولا تنس فى نهاية الثمانينيات، كانت مصر كلها فى نفس التوقيت تشاهد البرنامج فلا توجد فضائيات منافسة، ناهيك عن الجماهيرية غير المسبوقة التى حققها البرنامج، وهكذا تم حبك الحكاية جيدا، يومها كتبت مقالا فى جريدة (الوفد) عنوانه (ألف ليه وليه) أشرت فيه لكل ما سبق ولكن لا أحد صدقنى، لأن التطابق (السينكرون) بين الكلمة والنغمة لا يمكن التشكيك فيه، ومع الزمن اعترف العمروسى بأنها كانت خدعة.
عندما طرحت الأغنية على كاسيت محققة أرقاما قياسية احتفظ زكريا عامر بالسر، لم يشارك فى قطف الثمار، وعندما تم كشف السر لم يُشر أحد إلى أنه كان هو البطل الحقيقى للحكاية، وهكذا العباقرة الاستثنائيون، يأتون ويرحلون (من غير ليه).