قل بناءً ولا تقل إصلاحًا

يحمل الكثيرون منا نوعًا من الضغينة، وربما هي أقرب إلى انعدام السكينة، أو افتقاد الشعور بالأمان تجاه كل ما يتعلق بالطرق التي تستوجب مسارًا واحدًا لا مجال فيه للاختصارات أو الاختزالات أو حتى "الشورت كتات" (الطرق البديلة الأقصر).

ننزل من بيوتنا صباحًا لنجد طريقًا جديدًا جرى بناؤه وتبلور شكله وبات أقرب ما يكون إلى تلك الطرق التي نراها في بلاد الشرق والغرب ودول الهند والسند من حيث الاتساع والتنسيق والتنظيم والتخطيط، فنتوجس خيفة، ونتململ دقيقة، ثم تبدأ قرون استشعارنا للعمل فورًا على للاستدلال على طرق بديلة تقينا شرور السير في الخطوط المستقيمة.

استقامة السير في الطرق- بالإضافة لكونها قوانين صارمة تطبق على أولئك الملتوين المعوجين- فهي ثقافة وتربية وتنشئة. وأغلب الظن أيضًا أن جانبًا منها يعود إلى عوامل سياسية واجتماعية ومعيشية. فالمحظوظون والمحظوظات الذين ولدوا في بلاد أحوالها ميسورة وظروفها معقولة ومساراتها التاريخية من أجل الخروج من الظلمات والترهات أٌنجِزت في عصور ماضية- غالبًا لا يجدون أنفسهم متوترين أو قلقين من الطرق المستقيمة. فلا هم مجبرون على اللجوء إلى بدائل للمسارات الأساسية الميسرة والمتوفرة، ولا هم مدفوعون للهروب من الواضح معروف النهاية إلى المبهم مطموس المعالم.

وينطبق هذا الكلام على طرق السير في المدن والقرى، وإنجاز المعاملات في المصالح والمؤسسات، وكذلك على تأمين السلع وشراء الاحتياجات. حتى عندما يجد المواطن نفسه يتسلم راتبه في نهاية الشهر مخصومًا منه ربعه وأحيانًا نصفه- بحسب قميته- فإنه لا يجد نفسه مضطرًا للتهرب من الخصم الضريبي أو التعلل بالفقر وضيق ذات اليد لعدم الدفع، وذلك لسببين: الأول أنه يعلم تمام العلم أن المخصوم يصب في مصلحته علاجًا وتعليمًا وخدمات وبنى تحتية وأحيانًا ترفيهية، والثاني أنه حتى لو كان واهن الضمير أو مفتقدًا للأخلاق، فإن القانون والعقاب له بالمرصاد.

ونعود إلى أنفسنا حيث توترات دفينة من كل ما يندرج تحت بند الخطوط المستقيمة. سائق التاكسي يشعر دائمًا أنه طالما مطلع الكوبري غير مزدحم، فالمؤكد أن كمين الزحام في وسطه، فيلجأ سريعًا لطريق بديل عبر حارات وطرقات ملتوية خوفًا من المستقيم. ربما يكون الكوبري أطول قليلاً، لكنه يصل بمن ينتهجه إلى الطريق دون احتمالات أن يضل الطريق أو يفاجأ بحارة سد أو ميدان مغلق.

إغلاق باب الطرق المستقيمة في مصر- شكلاً وموضوعًا- ثقافة تمكنت منا تارة كوسيلة للبقاء على قيد الحياة، في ظل الأزمات والقيود والضغوط، وأخرى لأن معتنقي الالتواء والسير على خطى الـ"زيج زاج" المتعرج المتجعد لا يُساءلون وبالطبع لا يعاقبون. كما أن أحدًا لا يفكر كثيرًا في رفع الوعي وتسليط الضوء على أهمية الالتزام بخط السير حتى وإن كان الطريق أطول أو أصعب قليلاً، لكنه يبقى مأمون العواقب مضمون النتائج.

نطالب بإصلاح التعليم. يبدأ الإصلاح، ويعي الجميع بأن الطريق ربما أطول وأصعب، لكنه مضمون الخواتيم، فإذ بنا نحاول الهرب عبر "خطف" الـ"يو تيرن" في الاتجاه العكسي، وخوض الطرق الفرعية والطرقات المخفية حتى نصل سريعًا دون تكبد عناء الخطوط المستقيمة.

نطالب بالقضاء على العشوائيات وتوفير حياة كريمة للمواطنين. يبدأ الإصلاح ويعي الجميع أن من يتم نقلهم من المناطق العشوائية قد لا يجدون بالضرورة فرصة العمل أسفل المنزل، أو أول الشارع. يفضل البعض الإبقاء على القديم ومقاومة الجديد.

رفاهية التجديد لم تعد واردة. فالكثير مما لدينا لم يعد قابلاً للتجديد.

نحن بحاجة حقيقية إلى إعادة البناء، حتى وإن كانت أصعب وأطول، فقد تهلهلت ملابسنا القديمة، ولم تعد تتحمل الترقيع.

التعليقات