مذكرات الفريق أول محمد صادق
أخيراً تمكن العزيز، عبده مباشر، من نشر مذكرات الفريق أول محمد أحمد صادق، وزير الحربية الأسبق، بعنوان: «سنوات فى قلب الصراع»، أى بعد عشر سنوات من الزمن الذى أخبرنى فيه بوجود هذه المذكرات فى فترة إدارتى مؤسسة الأهرام. الإجابة عن السؤال: لماذا تأخر النشر طوال هذه المدة الطويلة؟ سوف أتركها للكاتب، الذى يظهر من المذكرات أنه لم يكن فقط صحفياً يتابع عمل وزارة الحربية «الدفاع الآن»، وإنما كانت له أدوار سياسية سواء قام بها أو امتنع عن القيام بها! «الصراع» الذى جاء فى العنوان، وكان الوزير فى قلبه، لم يكن فقط ذلك الذى كان بين مصر وإسرائيل، وإنما الذى كان جارياً فى قلب السلطة المصرية آنذاك بين أطراف عدة، معسكر عبدالناصر فى مواجهة معسكر المشير عامر، ومعسكر الرئيس السادات فى مواجهة معسكر على صبرى. ما كان مثيراً، وموجِعاً فى نفس الوقت، كان رواية الفريق أول عن «مفاجأة يونيو»، التى مثلت إشارة البداية فى هزيمة عام 1967، فقد كتبت عن «مفاجأة أكتوبر» الاستراتيجية التى قامت بها القوات المسلحة المصرية عام 1973، والتى صارت واحدة من أهم الفصول فى العلم الاستراتيجى جنباً إلى جنب مع وقائع تاريخية كبرى مثل الهجوم اليابانى على «بيرل هاربر» فى الولايات المتحدة، والعملية «بارباروسا» التى شنّت بها ألمانيا الحرب على الاتحاد السوفيتى أثناء الحرب العالمية الثانية. ورغم أن كثيراً من المذكرات والكتب نُشرت عن حرب «الأيام الستة» سواء على الجانب المصرى أو الإسرائيلى، بل فى كثير من المعاهد والجامعات التى اهتمت بتاريخ الشرق الأوسط المعاصر أو تاريخ الحرب بشكل عام، ورغم ذلك كله فإن التركيز على جانب «المفاجأة» فى الحرب ظل قاصراً وقليلاً، حتى ولو ظل عنصراً مهماً فى مفاوضات معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التى حرص فيها الطرفان المصرى والإسرائيلى على أن يكون فى المعاهدة ما يمنع الطرفين من تحقيق «المفاجأة الاستراتيجية» تجاه الطرف الآخر.
ما منع «مفاجأة يونيو» من الحصول على نفس الاهتمام الذى حصلت عليه «مفاجأة أكتوبر» أن المفاجأة لا تُعرف فقط بمَن يقوم بها، وإنما أيضاً بتأثيرات ما فُعل على الطرف الذى وقعت عليه المفاجأة، فالمفاجأة الاستراتيجية تحدث عندما يتوافر شرطان: الأول أن تتوافر كل المعلومات عن تحركات الخصم فى اتجاه الهجوم لدى الطرف الواقع عليه، والثانى أن يفشل الطرف الذى وقع عليه الهجوم فى تفسير هذه المعلومات، ويرفض معناها الواضح نتيجة تصورات خاطئة مسبقة على وقوع التصعيد. مذكرات الفريق أول صادق تلقى أضواء كاشفة على ما جرى فى تلك الأيام الحرجة من تاريخ مصر، والتى دارت ما بين منتصف مايو والخامس من يونيو 1967، فقد تولى الفريق أول صادق منصب رئيس المخابرات الحربية المصرية فى خريف عام 1966 قبل تسعة شهور من وقوع الحرب، التى جاءت فى وقت كانت فيه مصر «تفتقد الاتزان الاستراتيجى» نظراً لتواجد نصف قواتها فى اليمن. وبدون الدخول فى كثير من التفاصيل، التى يحسن اللجوء من أجلها إلى الكتاب، فإن المخابرات الحربية نجحت فى توفير المعلومات الخاصة بتواجد القوات الإسرائيلية ونواياها الهجومية، بل تحديد موعد هذا الهجوم واتجاه ضربته الرئيسية، وأكثر من ذلك أن المعلومات الذائعة آنذاك حول نية إسرائيل الهجوم على سوريا لم تكن صحيحة تماماً، بل إن تأكيد ذلك جاء من المصادر السورية ذاتها. العجيب فى الأمر أن القيادة السياسية والعسكرية المصرية لم تكن مستعدة لقبول إمكانية وقوع الحرب، بل إنها وضعت تفسيرها للوقائع لكى تتلاءم مع تمنياتها، وكان أولها أن الحشد المصرى والآخر الإسرائيلى ما هما إلا مظاهرات سياسية تستهدف تحقيق نتائج دبلوماسية وسياسية، وثانيها أنه إذا وقعت الحرب فإنها سوف تكون محدودة حينما تحاول إسرائيل فتح خليج العقبة للملاحة الإسرائيلية.
ما حدث فعلياً كان مختلفاً كما هو معروف، ودفعت مصر ثمناً فادحاً وتاريخياً لما جرى، ولكن المدهش أكثر أنه لم تُشكَّل لجنة تحقيق فيما جرى. وتشير مذكرات الفريق أول محمد صادق إلى أن التقرير عن الهزيمة جاء من خلال لجنة «المارشال زخاروف» الروسية المحايدة، والذى أعدته «من أجل التاريخ»، وصدرت منه نسختان: الأولى ذهبت إلى الرئيس جمال عبدالناصر، والأخرى ذهبت إلى الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية، وللأسف، ووفقاً لكاتب المذكرات، فإن نسختى التقرير اختفيتا، ومعهما جزء مهم من التاريخ المصرى. رحم الله كاتب المذكرات، وتحية للكاتب الذى حرص على نشرها وأعطاه الله الصحة والعافية.