عطل «فيسبوك» المحمود

أضاء العطل التاريخى الذى ضرب «فيسبوك» يوم الأربعاء الماضى طاقة نور ضخمة. تعطل «فيسبوك» وتوقفت الخدمة، فأصيب الكثيرون ممن أعرف عنهم رجاحة العقل وثقل الفكر والكثير من التعقل والتدبر والمنطق بما يشبه الانهيار.

ظن البعض أن حسابه قد تم اختراقه، واعتقد البعض الآخر أن قوى عظمى شنت حرباً شعواء على قوى صغرى عبر هذه المنصة العنكبوتية الفتاكة، وشطح فريق ثالث بأفكار وخيالات قوامها أن جهات أمنية تحجب وأخرى استخباراتية تمنع.

الدهشة العارمة التى أصابتنى أسبابها كثيرة، فبالإضافة للتفكير التآمرى، والتحليل الاستخباراتى، والتدقيق العنكبوتى، فإن شكل الأصدقاء والمعارف الذين وقعوا فى حيص بيص، وضربوا لخمة، وانتابتهم مشاعر الاغتراب، وتمكنت منهم أحاسيس الاندثار لمجرد أن جانباً من خيوط العنكبوت قد تقطّع لوهلة، صدمنى.

صدمة تعطل «فيسبوك» كشفت الكثير، فالغالبية المطلقة ممن وقعت فى حيص بيص وضربها القلق تنتمى لجيل الوسط وما فوق. بمعنى آخر، الغالبية من رجال ونساء هم مهنيون وأولياء أمور وأناس كما يقولون «ملو هدومهم»، ورغم ذلك فإن مظاهر تعطل الحياة وتعثر الروتين اليومى بدت واضحة وضوح الشمس.

الشمس التى أشرقت فى يوم الأربعاء على الكوكب تشير إلى أن آخر مرة تعطل فيها «فيسبوك» بهذا الشكل كانت فى عام 2008. وقتها كان تعداد شعب «فيسبوك» لا يتجاوز 150 مليون مواطن حول العالم، لكن الأربعاء الماضى كان التعداد قد بلغ 2٫3 مليار مواطن. وعلى الرغم من الرسالة التى وجهتها شركة «فيسبوك» لشعبها المليارى فى محاولة للطمأنة بأنها تدرك أن البعض يواجه مشكلة فى الوصول لتطبيقاتها، وأنها تعمل على حل المشكلة فى أسرع وقت ممكن، مؤكدة أن انقطاع الخدمة لم ينجم عن هجمات حجب أو اختراق أو ما شابه، فإن القلق استمر واستقر.

لكن الاستقرار الحقيقى هو أن «فيسبوك» لحس أدمغة، وهيمن على قامات، وسيطر على مهن ومنظومات كنا نظن أن لها قواعد ومعايير. الأفكار المتواترة فى ظل تعطل «فيسبوك» لبضع ساعات كثيرة. ويمكن القول إن فقرات البرامج التليفزيونية فى مصر عادت ليل الأربعاء إلى سابق عهدها، حيث تناول أخبار حقيقية ومناقشة قضايا فعلية منبعها عمل إعلامى بحت وبحث صحفى حقيقى منبعه ليس «تداولت وسائل التواصل الاجتماعى كذا». ملحوظة أخرى وهى أن اتصالات الصحفيين والمعدين فى المؤسسات المختلفة من صحف ومواقع ومحطات بالمصادر إما تقلصت فى هذه الليلة، أو تمحورت حول أسئلة جديرة بالعمل الإعلامى فعلاً، حيث البحث عن معلومة، أو التصريح ببيان، أو تحليل لحدث وقع على أرض الواقع.

جيوش وكتائب «فلان» المنتشرة انتشار النار فى هشيم «فيسبوك» المصرى، والتى حولت منظومة المعلومات والحقائق فى مصر إلى كيان عشوائى يعتمد بشكل واضح على ما يتم تداوله على مواقع التواصل باعتباره منبعاً للكثير من وسائل الإعلام، تعطلت عن العمل يوم الأربعاء.

يوم الأربعاء كشف عوارنا. العالم كله لديه «فيسبوك»، لكن العالم كله لا يعتبر «فيسبوك» مصدراً ومنهلاً. وحين يهدر صحفى أو معد برامج الوقت والجهد والمال ليتصل بمصدر ما ليسأله عن حقيقة توزيع مخدرات هنا، أو تعقيم أطفال هناك، أو إقالة فلان، فيسأله المتصَل به عن مصدر المعلومة، فيرد بكل شجاعة وإباء وفخر: «مواقع التواصل الاجتماعى»، فإن هذا يعنى أن إعلامنا فى خطر.

فعلياً ألقى عطل «فيسبوك» الضوء على حقائق كثيرة ربما لا نجد -فى ظل الإغراق فى تفاصيل الحياة اليومية- الوقت للتفكير فيها، فمثلاً المخاوف والتوترات والأسئلة المتواترة حول مدى قدرة طلاب الصف الأول الثانوى، وكذلك معلموهم، على التعامل مع «التابلت» بدت عجيبة مع الشعور الجارف بتعطل الحياة وتعرقل التواصل بسبب عطل فيسبوك. أليس أولئك المتضررون من تعطل «فيسبوك» لبضع ساعات هم أنفسهم المعلمين وأولياء الأمور الذين تعتريهم المخاوف من القدرة على التعامل مع التابلت؟ أليس التابلت ابن عم فيسبوك وقريب ونسيب كل من يتصل بالشبكة العنكبوتية التى قلبت الدنيا رأساً على عقب لتقطُّع بعض خيوطها بعض الوقت؟!

شكراً «فيسبوك» وكل التقدير والاحترام لتعطلك يوم الأربعاء.

تعليقات الفيس بوك

التعليقات