لا داعي للتبشير
ماذا لو أمضى الطيبون والمؤمنون والصالحون والمخلصون المتبعون كل ديانة من الديانات الموجودة على الكوكب جُل وقتهم، وبذلوا كل جهدهم، وخصصوا كل مالهم من أجل نشر دينهم ومعتقدهم ليصبح هو «نمبر وان»؟ وماذا يحدث لو توارث أتباع كل معتقد إيمانًا عميقًا وقناعة أكيدة قوامهما أنهم وحدهم من يمتلكون الحق ومن يسيطرون على الحقيقة؟
المؤكد أن أتباع كل معتقد يؤمنون فى قرارة أنفسهم بأن عقيدتهم هى الحق، وإلا لما بقوا عليها فى قلوبهم، وأبقوا عليها فى بطاقات هوياتهم (إن كانت تنص على تحديد الديانة)، وأقاموا الصلوات من أجل تذكرة أنفسهم والآخرين بها. لكن هناك حدًّا فاصلًا عميقًا بين أن تتبع معتقدًا ما أو تؤمن بأفكار روحانية معينة، وبين أن تعتبر كل ما لا يتبع هذا المعتقد هو أقل منك درجات، وأدنى منك بمراحل من حيث القرب إلى السماء والوعد بالجنة وملذاتها. هذه الفئة الأخيرة التى ترى نفسها وحدها الأقرب والأرقى والأعلى والأجمل والأقوى والأفضل حين ترتقى سلم «الإيمان» أكثر تعتقد أن واجبها «الإيمانى» يحتم عليها ألا تهدأ إلا بدفع كل من حولها لاتباع المعتقد نفسه.
وليست مسيرات «هارى كريشنا» التشجيعية، وخطب «سون ميونج مون» التحفيزية، وكتابات الكونفوشيوسية الإقناعية وغيرها إلا محاولات لجذب البعض إلى هذه الأفكار والمعتقدات.. لماذا؟ لأن كلاً منهم يؤمن بأنه يتبع الأفضل، وأن واجبه أن يجذب الناس إلى هذا الأفضل.
لكن الأفضل دون شك هو أن يبقى كل متبع لعقيدة ما قيد عقيدته، مسؤولاً عن أفعاله، ومتوائمًا مع أفكاره، ونموذجًا لمن حوله - إن أرادوا- لما يؤمن به. أما أن يهدر حياته، وربما حياة من حوله من أجل أن يعد العداد انضمام نفر أو نفرين أو ثلاثة إلى ما يؤمن به نتيجة جهود عاتية، فهذا هو الإهدار بعينه. وقبل يومين، قال بابا الفاتيكان البابا فرانسيس ما لم يكن على البال أو الخاطر، أثناء حديثه أمام مجموعة تنتمى إلى الطائفة الكاثوليكية قليلة العدد فى المغرب، قال إن دور أفراد الطائفة ليس محاولة جعل جيرانهم يعتنقون المسيحية، بل التعايش بأخوة مع أتباع الأديان الأخرى!. وأضاف: «من فضلكم، لا داعى للتبشير»!.
البشرى التى تتوق إليها الإنسانية هى هدنة للراحة وإعادة النظر فى الفوقية الدينية والعنصرية الفكرية. فكونك ولدت فى أسرة مسيحية أو بوذية أو هندوسية أو يهودية أو مسلمة سنية أو مسلمة شيعية.. إلى آخر القائمة، لا يعنى بأى حال من الأحوال أنك أحسن وأرقى ممن حولك. المؤكد أنك على قناعة - أو شبه قناعة - بأن ما وجدت عليه آباءك وأجدادك هو ما ينبغى أن يكون، لكن ما ينبغى ألا يكون هو أن تقنع نفسك أو يقنعك آخرون بأن إيمانك لن يكتمل إلا بدفع من حولك للانضمام إليك فى جنتك الإيمانية. من يشعر أنه أحرز نصرًا مبينًا لمعتقده، لأن هذا أشهر إيمانه به، أو أنه مُنى بخسارة مفجعة لأن ذلك هجر المعتقد، لا يقف على أرض إيمانية ثابتة.