التعايش السلمي مع الفساد!
قبل أيام وفى واحدة من المناسبات التى أقيمت خارج حدود (المحروسة) التقيت بمسؤول كبير عن أحد القطاعات الهامة فى الدولة، كان قد أوقف تماما منذ بضع سنوات وبمجرد توليه قيادة الإنتاج الدرامى لتلك المؤسسة الضخمة، بعد أن مُنيت بخسائر فادحة وفاضحة، سألته لماذا تخرج من حلبة الإنتاج فى هذا التوقيت الحرج؟ أجابنى سوف أروى لك تلك الواقعة (واحكم أنت)، فى اجتماع مع أعضاء اللجنة المنوط بهم الموافقة أو الرفض عن الإنتاج، سألتهم عن رأيهم فى المسلسل الذى تقدمت به إحدى شركات الإنتاج الخاصة، كان المبلغ الذى اقترحته الشركة هو 35 مليون جنيه، رفضت اللجنة بالإجماع المسلسل ليس فقط بسبب المبالغة فى الميزانية، ولكن لضعف مستوى النص فنيًا، فى الجلسة التالية وافقت نفس اللجنة وبإجماع أعضائها على المسلسل بعد أن انخفض المبلغ إلى 34 مليون!!
أين كان سيذهب المليون؟ سألنى ثم أجاب هو عن السؤال بضحكة، وأضاف: ولهذا ألغيت تماما عمل اللجنة، بل وأوقفت الإنتاج، حتى إشعار آخر.
ولم يسمح الوقت بمزيد من الدردشة، وأنا بالطبع متفهم، إنه مجبر حالياً على التوقف، ولكن يجب وضع خطة أخرى للعودة مجددا للانتاج، ترك الساحة خاوية ليس فى صالح القوة الناعمة المصرية.
دعونا نتأمل الموقف بمختلف جوانبه، هناك إحساس عام بأن مال الدولة مستباح، بين الحين والآخر أتابع بعض اللجان وأرى أرقاما تؤكد أن من وضعها يريد (تقليب) الدولة (فى قرشين) ومن السهل اكتشاف ذلك فى تباين الأرقام، ولكن ما يجرى على أرض الواقع أن هناك ثقافة أخرى بدأت تجد لنفسها مكاناً ومكانة راسخة فى المجتمع وهى (الطناش)، قال أحدهم اعلم أنهم كل عام يستحوذون على تلك المبالغ، وعلينا أن نغض الطرف، وإلا فلن تُقدم الفعالية.
تلك هى المشكلة عندما يصبح الجميع أطرافاً فى اللعبة حتى ولو بالسكوت وغض الطرف من أجل أن تستمر المهزلة.
فى دردشة مر عليها أكثر من ربع قرن مع الكاتب الكبير سعد الدين وهبه، والرجل كان مسؤولا عن إنتاج مؤسسة السينما فى النصف الثانى من الستيتيات وهو منحاز وجدانيا وفكريا لإنتاج الدولة، وعندما أجرى استفتاء عام 96 لأفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية وجدنا نصفها من إنتاج الدولة، سألت سعد وهبه عن واقعة رواها لى المخرج الكبير كمال الشيخ عندما طلبت شهادته عن الفارق بين الإنتاج فى الشركات الخاصة وإنتاج الدولة؟ قال لى فى القطاع الخاص ما يتم تصويره فى 4 أسابيع يستغرق 8 أسابيع أو أكثر لو أنتجته الدولة، وضرب مثلا بفيلمين جيدين من إخراجه وبطولة سعاد حسنى، وأضاف: المنتج الخاص يحاسب ع المليم، بينما مال الدولة بلا صاحب! قال لى سعد الدين وهبه: سوف أزيدك من الشعر بيتا، كان أحد المنتجين يضع فى خطته أن يتعاقد مع نفس نجوم فيلمه مرتين، عقد تنتجه الدولة وهو منتج منفذ للفيلم والثانى من إنتاجه مباشرة، مثلا لو كان أجر هذا النجم 4 ملايين جنيه يتعاقد معه على 5 ملايين تدفعها المؤسسة بينما فى فيلمه يمنحه فقط 3، وهكذا يتم أيضا التعاقد مع باقى العناصر: المونتير والكاتب والمصور، وتتحمل الدولة الفارق، وأضاف سعد: فعلها المنتج مرة وعندما انكشفت لم يستطع تكرارها!!.
كثيرا ما تتردد الدعوة لعودة الدولة للإنتاج فى مجال الدراما، ولا بأس طبعا، على شرط أن تتحطم أولا نظرية التعايش السلمى مع الفساد!!