ثقافة (الريموت كنترول)!!

من المهم أن نضبط الجرعة فى الفرح والجرح، فى الغضب والرضا، فى كل شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والعاطفية، لكننا مع الأسف صرنا نصل فى الأمر لمنتهاه، نرقص فى اللحظة التى كان علينا فيها أن نتأمل، نغنى بينما كان الأجدر بنا أن ننصت.

هناك من يموت من الحزن وآخر من الفرح، من يموت من التخمة وآخر من الشُح، شاهدنا أحد مجانين الساحرة المستديرة يتوقف قلبه فى اللحظة التى تدخل فيها الكرة مرمى فريقه، بينما الثانى أصيب بالسكتة القلبية، وهو يهلل فرحا عندما رأى الكرة تحتضن شباك الخصم، الإسراف فى الحالتين أقرب للدروشة، فلا يرى الدرويش سوى شيخ الطريقة فيتحلق حوله (والله حى).

الجرعة الزائدة عن الاحتمال هى الطريق لنهاية رحلة الحياة، هل تتذكرون فيلم (وداعا شاوشانك) سجين أمضى 50 عاما داخل الجدران، صارت تلك القضبان هى حدود عالمه، لا يتصور أن هناك حياة أخرى خارج الجدران، أصبح السجان هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى تحديد مساره ومصيره، خرج شاوشانك للحياة فوجد نفسه يحن للسجن ويتوق لتعليمات السجان، لم يستطع أن يتنفس أكسجين الحرية، ربما ليست هى بالضبط حكاية أقدم سجين مصرى، والذى أصبح أيضا أشهر مفرج عنه مصرى، كمال ثابت والذى اقترب من خمسة عقود مقيد الحركة، عاش فقط نحو اثنين منها قبل إيداعه السجن، وأدين فى جرائم قتل وشروع فى قتل، ومع الزمن توفر الشرط القانونى وحصل على العفو الرئاسى، لم يمض سوى فقط 60 يوما وقرأنا قبل ثلاثة أشهر خبر رحيله، مات فى ذروة الحرية وعز الفرحة، لأنه لم يتذوق طعم الدنيا.

لقد فعلها قبله بطل فيلم (وداعا شاوشانك)، عندما فتحوا عليه باب غرفته فوجدوه وقد اختار الموت شنقا.

الإنسان يألف مع التكرار والتراكم كل التفاصيل التى تبدو فى البداية معاكسة للطبيعة، إلا أنه يتعايش معها، لتصبح هى الطبيعة، ومع مرور الزمن نكتشف أن ما نراه عبئا أو مأزقا يمثل بالنسبة له أسلوب حياة، العذاب الذى نلحظه عندما نُطل من بعيد على الصورة، يتبدد عند الاقتراب منها.

هناك ما يعرف بترافق الحواس، من الممكن أن تستعيض مثلا عن الرؤية برهافة حاسة السمع، فترسم صورة من خلال صوت من يتحدث إليك، البعض بحاسة اللمس يتمكن من تحديد اللون، قد تعيش الحرية فى خيالك وأنت مقيد اليدين والقدمين.

حكى كل من الموسيقارين الكبيرين سيد مكاوى وعمار الشريعى فى أكثر من حوار عن عمليات نصحهم بها البعض لإعادة الإبصار، إلا أن كل منهما لم يجد بداخله رغبة حقيقية لتغيير نمط حياته، كما أن كل منهما صار لديه صورة للأصدقاء والأحباء ولا يريد أن يقارنها بالحقيقة التى سيكتشفها قطعا لو أبصر، كل منا يعتقد أن الأصم يتوق للسمع، والأبكم للنطق، والكفيف للرؤية، والسجين للحرية، إلا أنها ليست بالضرورة هى الحقيقة المؤكدة.

الحرية مثلا تحتاج إلى درجة من القدرة على التكيف مع الحياة التى تملك أنت فيها القرار، إنه (الريموت كنترول) الذى تمسكه فى يدك وتحدد من خلاله اختياراتك بدون رقيب، لكنك لو تابعت آراء الناس فى الشارع ستكتشف أنهم مع عودة الرقيب ليحدد لهم الاختيار وما تجوز مشاهدته وما ينبغى لهم تجنبه، يسلمون له (الريموت كنترول) بكل طواعية وأريحية شاكرين له تفضله بتحمل المسؤولية!!

التعليقات