أجواء التعديلات
هل يحق للمواطنين أن يعلموا هوية من علقوا لافتات حثهم على عمل الصح والمشاركة فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية؟ وهل يمكن للمواطنين الاطلاع على رأى القانون فى قيام رجال أعمال وأصحاب شركات ومصانع فى تعليق لافتات عملاقة -بعضها تهاوى فى عرض الشوارع بفعل رياح الخماسين العاتية دون أن يرفعها أحد- تحث الناخبين على التصويت بـ«نعم»؟ وهل يمكن بعد هدوء عاصفة الاستفتاء وسكون حملات الضرب والضرب الآخر، والسخرية والسخرية المضادة، والشد والجذب وكل الأفعال التى توحى بالصدام والاحتكاك والاستنفار والاستقطاب أن نتناقش ونتحاور حول أجوائنا السياسية وأحوالنا الثقافية وثقافتنا النقاشية وسياستنا الترويجية؟
الترويج للاستفتاء على التعديلات الدستورية -سواء بالموافقة أو المعارضة أو حتى بالمقاطعة- أمر مشروع ومفهوم ومقبول. لكن الترويج باستخدام أداة التخوين من الجميع ضد الجميع، ووسيلة التحقير من الكل ضد الكل، وطريقة الوصم بالجهل والسطحية والتفاهة من قبل كل الأطراف الضالعة إنما هو أمر عجيب وخطير.. خطورة الوضع ليست فى التعديلات، أو فى نتيجة الاستفتاء، لكنها تكمن فى الأجواء التى صاحبت الدعوة إلى التعديلات وردود الفعل التى تفجرت فى أعقاب نتيجة الاستفتاء، ولا يسع المراقب والمتابع المنزه عن هوى الأدلجة والميل نحو تأييد طرف ضد آخر على سبيل الانتقام وليس الإيمان بسياسات والانتماء لفكر سياسى «ماسك نفسه» إلا أن يلاحظ أننا نعانى عواراً رهيباً فى فهم المشاركة السياسية واستيعاب مفاهيم الوطنية والحرية.
فحريتك فى التعبير عن إيمانك الشديد بحتمية المشاركة فى استفتاء أو انتخابات لا تعنى بأى حال من الأحوال أن تنصب أعمدة خشبية أينما تشاء لتقع على رؤوس العباد وفى عرض الشوارع دون أن تشعر بأدنى مسئولية، أو تثبت شاشات عملاقة وقتما أحببت وأينما رغبت لتبث أغنيات تعتبرها وطنية ويعتبرها آخرون استفزازية دون أن تشعر بالخجل لأنك تزعج آخرين فى بيوتهم ومقار أعمالهم.
ومثلما أعطى هؤلاء لأنفسهم الحق فى الهيمنة على الأجواء الجغرافية والمكانية فى الأيام التى سبقت التصويت على التعديلات الدستورية، أعطى آخرون أنفسهم الحق فى الهيمنة على الأجواء العنكبوتية فى التوقيت ذاته، وحيث إن هذه الأجواء من النوع المفتوح غير الخاضع لهيمنة جهة دون أخرى أو سيطرة تيار وليس آخر، فقد كان التناحر والتنابز والتفاخر على أشدها.
وبعيداً عن اللجان الإلكترونية بأنواعها، والميليشيات العنكبوتية المحلية والإقليمية المعروفة أهواؤها، فإن جانباً لا بأس به من شعب فيسبوك الأبى وأعداداً ليست قليلة من سكان تويتر الأشاوس دخلوا فى صراعات افتراضية عنيفة وحركات تدوينات وتغريدات لا تنقصها الحدة أو تفتقد الرغبة فى المناطحة والميل إلى المشاجرة.
ولو كانت المناطحة مبنية على رؤى سياسية أو أفكار ثقافية أو حتى ميول أيديولوجية قابلة للفهم وخاضعة للنقاش والـ«هات وخد»، لهان الأمر، لكن المصيبة أن الغالبية المطلقة منها جاء على سبيل المكايدة ومن باب المحانقة، وأكاد أجزم أن نسبة كبيرة (حيث إن مثل هذه العبارات تحتاج دراسات صادقة واستقصاءات منزهة عن الأهواء) منا لم تقرأ أصلاً ماهية التعديلات، ولم تع المقصود بالمواد المعدلة، وربما يعود هذا إلى غياب الحوار المجتمعى الحقيقى فى هذا الشأن، بالإضافة إلى غلبة الصوت الواحد والتفسير الأوحد لهذه التعديلات ما أفقد كثيرين الاهتمام بالمتابعة الحقيقية والمعرفة الواقعية.
واقعياً، صوت كثيرون بـ«نعم» وكأنه تصويت على محبة وتأييد الرئيس السيسى، وذلك نكاية فى المعارضين وكسر شوكة الإخوان ومن معهم من قوى ومؤسسات دولية وصحفية كبرى، وهذا مهم، كما صوت كثيرون بـ«لا» نكاية فى الرئيس السيسى وأملاً فى كسر شوكة القاعدة العريضة من المؤيدين.
تحليل أجواء التعديلات وتفسير التصرفات والتوجهات والمكايدات أمر بالغ الأهمية، وهى أهمية لا تتدخل مباشرة فى نظام سياسى أو توجه أيديولوجى، لكنها أهمية يرتكز عليها نجاح أى قوى حاكمة وتعتمد عليها أى إجراءات أو توجهات مستقبلية. كثيرون -بمن فيهم المؤيدون للرئيس- مستاءون جداً من لافتات وشوادر وشاشات التأييد الفجة والخارجة على القوانين والضاربة بالقواعد عرض الحائط. وكثيرون -بمن فيهم من شاركوا- يشعرون أن الأجواء السياسية تحتاج عمليات تنقية وتطهير وإفاقة واستعادة.