محسنة توفيق وهاني شكرالله: مصر أحبتكما
محسنة توفيق نجمة تعلقت بها منذ زمن بعيد، وأصبحت نجمتى المفضلة منذ أيام فيلم العصفور. وكنت فى العشرينيات من عمرى واحداً من ملايين المصريين المقهورين الذين أصابهم الغم من هزيمة 1967، وكان اليأس يملأ قلوبنا وأصبح الأمل مفقوداً.
سمعنا عن فيلم العصفور وعرفنا أنه يعرض فى بيروت، ولكنه منع من العرض فى مصر، وزادنا ذلك إحباطاً، لأنه حتى الفن الجميل والراقى أصبح ممنوعاً. ربما كانت هذه الأشياء الصغيرة هى التى رجحت قرارى بالهجرة فى ذلك الوقت والتى كللت بالنجاح من الجانب العلمى والمادى والثقافى، ولكنها لم تطل لأننى اكتشفت أن بعدى عن مصر من المحال، فبعد تفكير عميق وجدت أننى فى عذاب أليم بسبب غيابى عن الوطن فى ظروف ربما تكون الأصعب فى تاريخ مصر الحديث، فعدت إلى مصر وقررت إلغاء فكرة الهجرة لآخر العمر. وبعد أن عدت شاهدت فيلم العصفور بعد أن أفرج عنه فى مصر، وبعد مرور أكثر من 45 عاماً على لحظة خروجى من السينما مازلت أذكر محسنة توفيق، بهية المصرية العظيمة الجميلة القوية وكلمات نجم وألحان إمام تعطى للمشهد عظمة وجلال. ووراء كل ذلك العبقرى يوسف شاهين.
مصر يامه يا بهية يأم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانت شابة هو رايح وانت جاية.. جاية فوق الصعب ماشية فات عليكى ليل ومية.. واحتمالك هو هو وابتسامتك هى هى.. تضحكى للصبح يصبح بعد ليلة ومغربية.. تطلع الشمس تلاقيكى معجبانية وصبية.
لم أعرف محسنة توفيق شخصياً، ولكننى تابعت بشغف كل مواقفها الإنسانية العظيمة، كانت لها آراء واضحة فى الفن الراقى وفى العدالة وفى الإنسانية لم تتخل عنها أبداً، ولم تهتم أن كان ذلك يعطلها عن مسيرتها الفنية. وفى النهاية حصلت على جائزة الدولة التقديرية من نفس الدولة التى سجنتها بسبب أفكارها أيام عبدالناصر.
محسنة توفيق أبدعت كثيراً فى فيلم إسكندرية ليه، وكانت رائعة فى أعظم مسلسلين فى تاريخ التليفزيون المصرى، وهما ليالى الحلمية وأم كلثوم. محسنة توفيق قطعة من قلب وعقل الوطن، تمثل عظمة المرأة المصرية وقدرتها على الإبداع والصمود أمام أى قهر والخروج إلى آفاق أعلى وأوسع. رحلت محسنة توفيق ولكنها مازالت موجودة صوت وصورة وفن وجمال وأخلاق ومبادئ ووطن. حقاً إن محسنة توفيق تسكن فى قلوب كل من يحب مصر.
هانى شكرالله مصرى جميل عرفته منذ زمن بعيد وعلاقتى به كانت على عدة مستويات وفى أزمنة مختلفة وظروف متغيرة، ولكنه كان إنساناً رائعاً فى جميع المواقف والأزمات. هانى مثال المصرى الوطنى الذى اشترك فى الحركة الطلابية مع جيل السبعينيات واستمر حب الوطن فى قلبه حتى آخر لحظة من عمره. شارك فى مجموعة من أشرف شباب مصر الذين رفضوا هزيمة 1967 وقرروا استعادة الوطن للدفاع عنه ونجحوا فى تغيير المسار السياسى.
حقق نفسه فى الصحافة بالمشاركة فى إنشاء الأهرام ويكلى وهى صحيفة كانت واستمرت متميزة سنوات طويلة بمستواها الفنى والتحريرى وسقف حريتها بحيث كانت أكبر وأعلى وأكثر حرفية من مستوى الأهرام اليومى فى هذه الفترة، وشارك كمدير تحرير مع رئيس التحرير المتميز الأستاذ حسنى جندى ومجموعة رائعة من شباب الصحفيين المبدعين المثقفين. ثم شارك فى إنشاء الأهرام أون لاين وساهم فى نجاح الصحافة الإلكترونية فى بدايتنها، وذلك قبل أن تنتقل قيادة الإعلام لوسائل التواصل الاجتماعى باكتساح خاصة فى بلاد العالم الثالث التى لا تتمتع فيها الصحافة بالحرية.
كان هانى يسارياً عقائدياً ولكنه لم يكن متعصباً لأفكاره ولا مهاجماً للآخرين بل تعامل مع كل الأفكار بحب وتفهم شديد. بعد 25 يناير التى شارك فيها هانى بقلبه وعقله وضميره، انضم إلى الحزب المصرى الديمقراطى بعد فترة من تكوينه. وكنا نعتبر أن انضمام هانى مكسب كبير للحزب، وهذه حقيقة، ولكن هانى بعد فترة ليست طويلة قرر الانسحاب من الحزب والحياة الحزبية لأنه لم يستطع أن يوفق بين مبادئه وأفكاره وبين تيارات مختلفة داخل الحزب، ولم يستطع أن يقوم ببعض التوازنات والمواءمات التى يضطر إليها من يعمل على الأرض بالعمل السياسى، لأنه صاحب أفكار ومبادئ لا يستطيع الحياد عنها. واستمرت صداقتنا بطريقة أقوى وأجمل وأعمق.
فى فترات اقتربت كثيراً من هانى وزرته فى بيته، وحدثت بيننا حوارات ونقاشات تعلمت منها كثيراً. وأخيراً رحل هانى شكرالله المصرى الملتزم المحترم، وترك فراغاً كبيراً عند إخوته وأصدقائه وقرائه.
وداعاً لمحسنة توفيق ولهانى شكرالله، اثنين من أجمل وأرقى وأعظم من أنجبت مصر. ولكن كما قال نجم وغنى إمام «مصر ولّادة»، ومصر سوف تنجب محسنة أخرى وهانى آخر.
قوم يا مصرى مصر دايماً بتناديك