1 يونيو... عيدًا مصريًا

فى مثل أمس الأول (١ يونيو) قبل نحو ألفى عام، سجَّل التاريخُ فى دفتر مصرَ غزيرِ الأوراق، سطرًا مُهمًّا من تاريخها. حدثٌ جلل يُشرقُ بحروف من نور بين سطور كتابها العريق. فى مثل ذلك اليوم، دخل أرضَ مصرَ شخصان كريمان لم يعرفا الخطايا ولم تقربهما الآثامُ. عذراءُ شابّةٌ، تحملُ فوق ذراعيها طفلَها الكريمَ كلمةَ الله ومعجزتَه، يصحبهما شيخٌ جليلٌ فى رحلة شاقّة، خارجين من أرض فلسطينَ داخلين إلى رفح المصرية. السيد المسيح طفلاً، وأمُّه البتولُ مريم، أطهرُ نساء العالمين، يصحبها يوسف النجار، قاطعين ما يزيد على ألف كم من بيت لحم الفلسطينية، إلى الدير المحرّق بقلب مصر أسيوط، ليمثكوا فى أرضنا الطيبة أكثر من سنواتٍ ثلاث، قبل أن يعودوا إلى فلسطين بعد موت هيرودس الملك الرومانى قاتل الأطفال.

حدثٌ تاريخىٌّ استثنائى ميَّز اللهُ به مصرَ على سائر بلاد الدنيا. يومٌ مصرى ووطنى فارقٌ فى تاريخ البشرية علينا الاستثمار فيه معرفيًّا وتثقيفيًّا وحضاريًّا وسياحيًّا. يومٌ يثبتُ لنا وللدنيا أن مصرَ طوال تاريخها الطويل هى الملاذُ الآمن للمحزونين، تفتحُ لهم ذراعيها وتقول: «ادخلوا مصَر إن شاء اللهُ آمنين»، كما قالها نبىّ الله يوسفُ لأبيه يعقوب عليهما السلام، وإخوتِه، مُرحِّبًا بهم بعد الرحلة الشاقّة من كنعان/ فلسطين إلى أرضنا الكريمة التى تُرحِّبُ بالطيبين وتفتح لهم قلبها فى العسر وفى اليسر.

وبالفعل كانت الدولةُ المصرية قد بدأت الاهتمامَ بتوثيق رحلة العائلة المقدسة داخل مصر مع بدايات الألفية الجديدة، وجعلها رحلةً سياحية رسمية موثّقة؛ يتوجّه إليها السياحُ من كافة بقاع الأرض، بما يضعُ مصرَ من جديد على قمّة الدول السياحية فى العالم، كما يليق بها. وفى السنوات الأخيرة زاد الاهتمامُ بالأمر وأقيمت عدة مؤتمرات حول ذلك الأمر، واتخذت بعض الإجراءات الجميلة من قِبَل وزارة السياحة والآثار لترميم المزارات الدينية ونقاط توقّف وإقامة العائلة المقدسة. وأتمنى أن تتضافر جهود وزارات الطرق والنقل والمرافق من أجل تعبيد دروب ومسارات السياح وإزالة الإشغالات التى تشوّه المشهد العام، وتزويد الأماكن باستراحات ومطاعم وحمامات عامة، لتُيسّر الأمور على الأفواج السياحية المرتقبة، حتى تنتعش تلك الرحلة السياحية المهمة التى سوف تُدرُّ على الدولة المصرية دخلا قوميًّا هائلا، نحن فى أمسّ الحاجة إليه. وهنا يجبُ أن أشكر رجل الأعمال الوطنى «منير غبور» الذى يهتمُ اهتمامًا خاصًّا برحلة العائلة المقدسة وتدشينها رحلةً سياحية عالمية، جاعلا من هذا الأمر مشروعَ عمره، يُسخِّرُ من أجله الوقتَ والفكرَ والمالَ والجهدَ.

وفى يوم ٢٤ من هذا الشهر، سوف تشهدُ مصرُ حفلا أوبراليًّا عالميًّا مشهودًا فى قاعة «المنارة» بشارع التسعين، يقدمه «منير غبور» هديةً لمصر فى هذه المناسبة القومية التاريخية. وأرجو من وزير التعليم المثقف، د. طارق شوقى، أن يُدرج مسارَ رحلة العائلة المقدسة بأرض مصر فى مناهج التعليم؛ حتى يُدركُ النشء الصغير قيمة وطنهم العزيز وفرادته على خريطة العالم الحضارية. ففى ذلك قيمةٌ معرفيةٌ ووطنيةٌ جميلة، تربطُ الأبناءَ بمصرَ الوطن، وتُساهمُ فى إعلاء شأنها فى عيونهم.

أتمنى من الدولة المصرية تسليط الضوء على هذا اليوم المهم، الأول من يونيو، وجعله يومًا مصريًّا وطنيًّا، يحتفلُ فيه المصريون كافة بحدث تاريخىّ فريد تتمايزُ به مصرُ على سائر دول هذه الأرض. فهو عيدٌ وطنىٌّ، وليس دينيًّا؛ لأن دخول العائلة المقدسة أرض مصر يسبق نزول المسيحية والإسلام. ففى جعل هذا اليوم عيدًا مصريًّا ما يقوّى عُرى الترابط بين المصريين، حين نتأملُ أن التاريخَ المشرّف الذى يربطنا يسبق ويتفوق على النزعات الطائفية التى تُفرّقنا وتُشتتنا.

هذا اليوم المصرى الفريد، أطلق عليه الغربُ The Global Coptic Day (اليوم المصرى العالمى). لأن كلمة (قبطى) تعنى (مصرى). فنحن «المصريين» أقباطٌ: مسلمون ومسيحيون. ألم يحن الوقتُ لنجعل من هذا اليوم عيدًا رسميًّا نفرح فيه ببلادنا التى طوّبتها أطهرُ نساء الأرض، وباركها رسولُ السلام السيد المسيح عليه السلام قائلا: «مباركٌ شعبى مصر»، فأىّ أرض سوى أرض مصر الطيبة استقبلت هذا الوليد الجليل، وأمَّه الطاهرة، وخبأتهما فى قلبها عن عيون الشر، لينجو رسول السلام الذى حماه الله من نخْسِ الشيطان؟. هى مصرُ التى احتضنته طفلا ليكبُر بين ربوعها، ويغدو رسولَ السلام للإنسانية كافة، «يجول يصنع خيرًا»، بعدما طوّبه اللُه بالسلام عليه: «يومَ وُلِد ويومَ يموتُ ويوم يُبعثُ حيّا». أرضنا الطيبة كانت لتلك العائلة المقدسة «ربوة ذات قرار ومعين». جالت فيها سيدةُ الفضيلة، فتفجرت تحت قدميها عيونُ الماء، وشقشقت فى كل بقعة وطئتها زهورُ البيلسان، فامتلأت أرضُ مصرَ بالبركة والنور والخصب الذى لا يبور، وإن بارت الأرضُ كافة.

الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.

التعليقات