عبدالحليم.. في التسعين
عندما جاءت ذكرى ميلاد عبد الحليم الـ70 سألت الموسيقار الكبير الراحل «كمال الطويل»: ماذا لو امتدت الحياة بعبد الحليم، ما الذى كان من الممكن أن يقدمه للناس وهو فى السبعين؟!. أجابنى: («الفيديو كليب» بأسلوب عبد الحليم)، كنا وقتها فى بداية ظهور (الفيديو كليب)، عبد الحليم يتعامل ببساطة مع مفردات العصر، كان أكثر جرأة من أم كلثوم فى هذا الشأن!.
قبل ساعات أكمل عبد الحليم عامه التسعين، تأملت كلمات «كمال الطويل» وقلت بعد 20 عاما ما هى إجابة الطويل على نفس السؤال؟، مؤكد أن عبد الحليم سوف يستمر فى الغناء ولقاء الجماهير، مثلما شاهدنا شارل ازنافور ووديع الصافى حتى الـ90، عبد الحليم لا يعتزل ولكنه يتجدد، هكذا أراه، حريصا على القمة، وأظن أن من يماثله الآن هو عمرو دياب، تراجع جيل دياب عن الصدارة، والأجيال التالية له لم تصمد، بينما وهو يقترب من الستين لا يزال على القمة.
سر «عبد الحليم» أنه كان ابناً للزمن الذى يعيشه، يراهن على الكلمة التى لا تزال تحتفظ ببكارتها، والجملة الموسيقية التى لم تولد بعد، كنا نعيش فى مطلع الخمسينيات ثورة سياسية وتحرراً وطنياً، وجاء «عبد الحليم» ومعه «كمال الطويل» و«محمد الموجى» و«صلاح جاهين»، وانضم إليهم من الجيل السابق عليهم الشعراء «مأمون الشناوى» و«مرسى جميل عزيز» و«حسين السيد» فأحالوها إلى ثورة عاطفية أيضاً!.
أطلق «عبد الحليم» بأغنيته «يا سيدى أمرك.. أمرك يا سيدى» التى قدمها فى فيلم «ليالى الحب» أول احتجاج ساخر على الأغنية التى كانت سائدة قبل الخمسينيات، فهو مثلاً يقول: «بحقك أنت المنى والطلب» ثم يكمل: «والله يجازى اللى كان السبب»!، الكلمات كتبها فتحى قورة ولحنها محمود الشريف، «بحقك أنت المنى والطلب» قصيدة شهيرة من تلحين الشيخ أبو العلا محمد، غناها كل المطربين والمطربات، وعلى رأسهم «أم كلثوم» تلميذة الشيخ «أبو العلا»!. ويتابع السخرية بموشح أكثر شهرة وهو «بالذى أسكر من عرف اللما» ويضيف: «كان فى حاله جاتله داهية من السما»، والمقصود بـ«عرف اللما» الرائحة التى تخرج من الفم!. وفى النهاية يقول: «خايف أقول على قد الشوق لا تطلع روحى»!
يقصد طبعًا أغنية «على قد الشوق اللى فى عيونى يا جميل سلم» التى حققت فى مطلع الخمسينيات شهرة غير مسبوقة!.
وهكذا كان المجتمع يسمح بثورة ضد الجمود، حليم ابن شرعى لزمن التمرد!.
فى عام 1953 عند إعلان الجمهورية قال «يوسف وهبى» فى حفل لأضواء المدينة: اليوم تعلن الجمهورية ويعلن أيضاً مولد مطرب جديد!.
هناك دائماً بين الفنان وجمهوره جسر، وهو وسيلة الإعلام التى تقدم عنه صورة ذهنية، عبد الحليم مثل أستاذه محمد عبد الوهاب، نجح فى ترويض الإعلام ليعمل لصالحه، ولا تنسى أن عبد الحليم لم يلحق عصر الفضائيات والسوشيال ميدا، ولهذا كانت السيطرة على قنوات التواصل فى ذلك الزمن ممكنة.
فنان بحجم وفكر «عبد الحليم» لا يمكن أن يتحول إلى «ندابة» تهاجم جيلاً وعصراً ونبضاً وإيقاعاً ونغماً جديداً، المؤكد أن «عبد الحليم» كان قادراً- لو امتد به الأجل- أن يغنى على إيقاع هذا الزمن بأسلوب حليمى المذاق ليغير البوصلة للاتجاه الصحيح، تعبير (صحيح) غير دقيق، فلا يوجد (ترمومتر) يحدد الخطأ من الصواب، ولكن كان عبد الحليم سيحيل الزمن إلى أحد أهم أسلحته لقهر الزمن بالصلح مع الزمن!.