ليسوا سواءً!
لم أكن أعرف أن الدولة تعمل حاليًا على تنفيذ برنامج عمل واسع في الصعيد.
ولم أكن أعرف أن هذا البرنامج اسمه "تنمية صعيد مصر".
ولم أكن أعرف أن تمويله مشترك بين البنك الدولي الذي يساهم فيه بمبلغ يصل إلى ٥٠٠ مليون دولار، وبين الحكومة التي تصل مساهمتها إلى ٤٧٥ مليون دولار!
لم أكن أعرف هذا حتى قرأت تفاصيل اجتماع عقدته الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، واللواء محمود شعراوي، وزير التنمية المحلية، مع نواب الصعيد في البرلمان؛ للنظر في المدى الذي وصل إليه البرنامج في هذه اللحظة الحالية!
ومما قيل في الاجتماع أن ٤٣٩ مشروعًا من المشروعات المدرجة في البرنامج، قد جرى تنفيذها حتى مارس من هذا العام، وأن ٥١ مشروعًا قادمة في الطريق، وأن مشروعات التنمية في البرنامج تركز على محافظتين تحديدًا من محافظات الصعيد، هما قنا وسوهاج، وأن البدء بهما قد أثبت نجاحا لافتًا على مستوى تطبيق اللامركزية والمشاركة الحقيقية للمواطنين، وأن الهدف فيما بعد هو تعميم نجاحه من نطاق المحافظتين إلى باقي المحافظات، فلا يقتصر على محافظات الصعيد وحدها.
أما الدكتور هشام الهلباوي، مدير البرنامج، فقال إن البنك الدولي وافق على صرف دفعة جديدة من القرض، وهذه الدفعة قيمتها ١٣٢ مليون دولار!
والحقيقة أنه شيء جيد أن تفكر الحكومة في تنمية الصعيد أولا، وأن يكون ذلك وفق برنامج معلن ثانيا، وأن تشرك الحكومة البنك الدولي في تمويل البرنامج ثالثا، وأن تركز على محافظتين دون غيرهما من المحافظات رابعا، وأن تعقد اجتماعا لترى ماذا تحقق مما تريده وتسعى إليه خامسا، وأن يكون الاجتماع بحضور نواب الصعيد، في مجلس النواب سادسا، وهكذا، وهكذا، إلى البنود سابعًا، وثامنًا، وتاسعًا، وعاشرًا.
لم تذكر تفاصيل الاجتماع شيئا عن طبيعة المشروعات التي جرى تنفيذها بالفعل، ولا عن التي سوف يتم تنفيذها في المستقبل، ولكن المنطق يقول إن الصعيد بوجه عام والمحافظتين المذكورتين بشكل خاص- أحوج محافظات الجمهورية السبع والعشرين إلى مشروعات من نوع محدد. مشروعات توفر أكبر قدر ممكن من فرص العمل. مشروعات تجعل الشاب في الصعيد قادرًا على أن يجد فرصة عمل في محافظته، بدلًا من النزوح اضطرارًا إلى العاصمة، أو إلى محافظات الوجه البحري. مشروعات يشعر من خلالها كل صعيدي بأنه في القلب من اهتمام حكومته، وأن وجودها في القاهرة لا يجعلها تنسى الصعيد على امتداده، من الجيزة شمالاً إلى أسوان في أقصى الجنوب!
وكلنا يذكر فتى الصعيد صاحب الفيديو الشهير مع المذيعة التلفزيونية، وكيف أنه قد أعطاها درسا في أهمية أن تذاكر موضوعها الذي سوف تثيره على الشاشة، قبل أن تقف أمام الكاميرا، وقبل أن تطلب منه (الفتى الصعيدي) أن يعود إلى محافظته سوهاج، وأن يعمل فيها، بدلا من ارتكاب أعمال مخالفة للقانون في محافظة من محافظات الوجه البحري!
كلنا يذكر ذلك الفيديو الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس قبل شهور من الآن، عندما تكلم الفتى السوهاجي ببساطة وتلقائية عن الأسباب التي دعته إلى المجيء من سوهاج إلى بورسعيد.
فلقد جاء مضطرا، وكم كان يتمنى لو يجد عملا في محافظته، فيبقى إلى جوار ناسه، وأهله، وأسرته!
وكلنا يذكر كيف أن الفتى قد حاز تعاطف الكثيرين ممن رأوا الفيديو، وكان السبب أنه كان قد بحث عن عمل في موطنه في الصعيد حتى أضناه البحث، فلم يعثر على شيء، ولم يكن نزوحه إلى بورسعيد مع رفاق له سوى البديل الأخير الذي لا بديل آخر عداه!
حاز الفتى تعاطفا كبيرا لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، رغم أنه تم ضبطه يمارس ما يضعه تحت طائلة القانون. وكان المعنى أن الفيديو كان كاشفا، وأنه قد لفت انتباه الحكومة إلى ما يمكن أن تغفل عنه في غمرة الانشغال بأمور الدولة الكثيرة!
وما يمكن أن تغفل عنه أن الصعيد في أشد الحاجة إلى استثمار جاد وطويل النفس في وقت واحد، وأن برنامج تنميته الذي انعقد الاجتماع من أجله عمل ممتاز لا شك، ولكنه شيء من بين أشياء.
أما هذه الأشياء، فهي دفع القطاع الخاص دفعا إلى العمل في الصعيد؛ ولن يكون ذلك ممكنا إلا بمنح هذا القطاع مزايا تشده إلى هناك وتجذبه، فلا يكون رجل الأعمال الذي يستثمر ماله في محافظة من محافظات الصعيد هو والذي يستثمر في محافظات الوجه البحري أو القاهرة سواء!
ليسوا سواءً! وهذه هي نقطة البدء. ففي بولندا، كنت قد سمعت بأُذني قبل عامين أن حوافز كبيرة ومغرية تظل في انتظار كل صاحب مال يستثمره خارج العاصمة وارسو. وقد تمنيت لو أني رفعت وارسو من العبارة السابقة ووضعت القاهرة في مكانها، فلا يختلف الحال!
تمنيت. وسوف أظل أتمنى إلى أن يذهب المستثمر إلى الصعيد، دون دعوة من الحكومة، لأن المزايا الممنوحة له هي التي ستغريه، وتدعوه.