سلوكياتنا القاتلة تذبحنا
يعتقد البعض أن الحديث عن السلوكيات وإبداء القلق أو الغضب أو المطالبة بتقويمها رفاهية من الرفاهيات في زمن الصعوبات. كما يشيع البعض كذبًا وزورًا ألا مجال للشكوى من تدني السلوكيات في ظل الفقر والمصاعب الاقتصادية، وكأن الفقر يعني بالضرورة تدنيًا أخلاقيًا أو تحللاً سلوكيًا، وهذا عار تمامًا من الصحة. ويتخيل البعض أن إيلاء اهتمام للسلوكيات المتدنية والمنفلتة ينبغي أن ينتظر لحين شمول وجبات الملايين على كمية كافية من البروتينات وقدر معقول من الفيتامينات. بمعنى آخر هناك من يشيع أن الأخلاق تأتي في المرتبة الثالثة أو الرابعة وربما الخامسة بعد اللحوم والدجاج والسكر والزيت.
هذا الربط الغريب والمريب يضر الطبقات الفقيرة ولا ينفعها. فهو من جهة يعطي انطباعًا أن التدني السلوكي حكر على الفقراء. ومن جهة أخرى، يعطيهم دون أن يدري حجة لتعليق التصرفات غير اللائقة على شماعة الفقر. لكن واقع الحال في الشارع، والنادي، والعمارة، ومكان العمل، والشاطئ في مصر يشير إلى أن السلوكيات المنفلتة والأخلاق المبعثرة هي عابرة للطبقات ونافذة دون النظر إلى المستويات.
مستوى الشكوى من السلوكيات المتدنية في حياتنا اليومية بلغ أوجه. الجميع يشكو. صفحات الكومباوندات الراقية المغلقة تعج بشكاوى من عدم مراعاة الجيران لبعضهم البعض: الصوت العالي. الأطفال الذين يقودون سيارات الأهل، ترك القمامة أمام الشقق وأحياناً الفيلات، إلخ. ومجموعات "واتس آب" الخاصة بالسكان في مدن سكنية جديدة مصنفة متوسطة الحال تشكو مر الشكوى من فوضى الشقق المؤجرة للعمال، وحالات التحرش بالساكنات وبناتهن، وتلال القمامة المتراكمة، وعشوائية موقف السرفيس،... إلخ. وصفحات النوادي الرياضية الراقية مليئة بتعليقات غاضبة من الأعضاء حول تدني مستوى تربية الأطفال والمراهقين بين الصوت العالي والصراخ وقلة التهذيب في الرد على الكبار ومسؤولي الأمن والتلفظ بعبارات وألفاظ خادشة للحياء، إضافة إلى صور يتم التقاطها للقمامة التي يتركها بعض الأعضاء على الأرض والمقاعد رغم توافر سلات قمامة، ومعارك بين الأعضاء على إيقاف السيارات في الجراج،... إلخ.
المشاحنات السابق ذكرها تشير إلى أن الشكوى من السلوكيات غير اللائقة ليست حكرًا على طبقة أو مستوى بعينه. ولذلك فإن الحديث عن الشارع المصري، وما أدراك ما الشارع المصري وما أصابه وضربه من انفلات وضرب عرض الحائط بالقوانين بالطبع، والقواعد والأعراف وما كان يصح ولا يصح، لا ينبغي أن يستنفر قوى الدفاع عن الفقراء، والتحجج بالفقر ذريعة للتدني الأخلاقي.
شباب يسب ويلعن نساء أثناء قيادة السيارات، ورأيت بعيني من يعتدي جسديًا على بعضهن على مرأى ومسمع من المارة. طريقة قيادة السيارات والتي تنم عن افتقاد تام لأدنى قواعد الإنسانية ولا أقول الذوق أو الأخلاق وبالطبع قواعد القيادة. رجال وشباب يتلفظون بأقبح الألفاظ والشتائم بأعلى صوت ضمن الأحاديث العادية مع الأصدقاء والزملاء. أصوات عالية أقرب إلى الصراخ تملأ الأجواء وكأنها سنة الحياة. قمامة تلقى على أبواب المحلات ومن نوافذ السيارات وحول أسوار المدارس والمستشفيات ولا تشغل بال أحد.
رجال في ريعان الشباب يجلسون على مقاعد مخصصة للنساء وذوي الاحتياجات الخاصة ويرفضون تركها لأصحابها مع وصلات من قلة الأدب.
مقدمو خدمات من باعة في محلات ونادلين في مطاعم يتعاملون مع العملاء وكأنهم رعاع وكلاب، بدلاً من التفاني في تقديم الخدمة.
الكارثة هي أن الجميع يشكو، فمن إذًا يقترف هذا التدني ويتقن هذه الأخلاقيات ويحترفها؟
وفي مثل هذه الأحوال يكون هناك تدخلان لا ثالث لهما؛ الأول جراحي استئصالي وتطبيق القانون بحذافيره، لكن الجراحين في غيبوبة، والثاني يتبع الأساليب الباطنية وعلاج الجذور بدءًا بالتعليم مرورًا بالبيت والإعلام وانتهاء بالمجتمع المدني القادر على القيام بدور هائل في هذا المجال.
أعرف أصدقاء وصديقات توقفوا قدر الإمكان عن نزول الشارع أو الاختلاط بالبشر قدر الإمكان حفاظًا على ما تبقى من آدميتهم. سلوكياتنا القاتلة تذبحنا، فماذا نفعل؟!