العنوان القنبلة..!
"أنباء عن توجه جمال مبارك لتقديم واجب العزاء في رجل الأعمال حسين سالم".. "وصول جمال مبارك لتقديم واجب العزاء في رجل الأعمال حسين سالم".. "صور تقديم جمال مبارك واجب العزاء في رجل الأعمال حسين سالم".. "لحظة مغادرة جمال مبارك عزاء حسين سالم بعد تقديمه واجب المواساة".. "ماذا قالوا عن تواجد جمال مبارك لتقديم العزاء في رجل الأعمال حسين سالم؟".. "مواطنون يلتقطون سيلفي مع جمال مبارك أثناء تقديمه واجب العزاء في رجل الأعمال حسين سالم".. "رد فعل رواد السوشيال ميديا عن قيام جمال مبارك بتقديم واجب العزاء في رجل الأعمال حسين سالم"!
ما سبق نموذج واحد وسط بحر هائج من صحافة الترند. وجود جمال مبارك في مكان عام أمر يثير حب الاستطلاع، ويجب متابعة ردود الفعل عليه.. نعم! وجود جمال مبارك في عزاء حسين سالم أمر تجب الإشارة إليه لأنه يعني الكثير! نعم دون أدنى شك.
لكن هل هذا النوع من التغطيات الصحفية البائسة هو السبيل إلى استشفاف المؤشرات وقراءة المشهد؟
بالطبع الجميع لديه رغبة عارمة في أن يدق دقة لتظهر له صورة جمال مبارك، ثم يكبرها ليرى ملامح وجهه، وهل هو سعيد، أم حزين، أم مهموم، أم متحفز، أما ماذا؟
وبالطبع لدينا حب استطلاع جارف لندقق في خلفية الصورة لنرى من حضر العزاء من رجال الدولة أو الأعمال أو الفنانين... إلخ لأسباب شتى تتراوح بين حب الاستطلاع الفطري والخروج بمؤشرات ربما تقول لنا الكثير عن: من مع من ضد من؟
لكن هل على الصحافة التقليدية، من صحف ورقية ومواقع خبرية وقنوات تلفزيونية، أن تترك نفسها لتغرق تمامًا في آلاف وربما ملايين التغطيات من هذا النوع؟! وبالمناسبة فإن هذا النوع من الصحافة يجب ألا يُنعت بكلمة "تغطية"، بل يمكن تسميته "أزعرينة" أو "كُلشنكان" أو "بزرميط".
والمجال هنا لا يتسع للبحث عمن أو ما يمكن أن نلقي عليه اللوم. هل هو الصحفي الذي يرى في هذه النوعية صحافة حقيقية، أم رئيس التحرير الذي يطلب من الصحفي هذا النوع لأسباب تتراوح بين البحث عن قارئ أو مشاهد أو الإلهاء عن التغطيات الحقيقية التي تتسم بالمعلومة وتستفز التفكير، أم هو تدهور في مستوى البعض من الصحفيين الجدد، أم هي حسابات اللحظة الراهنة؛ حيث ضغوط اقتصادية وتضييقات سياسية واختلالات عامة في المعايير؟
وبغض النظر عما سبق من احتمالات، فهناك وحش مفترس اسمه شهوة الترند، وهي شهوة مؤذية تعلم الكسل، وتلقن المراوغة، وتكسب البعض مهارات النصب والاحتيال وشغل الثلاث ورقات.
تقرأ عنوان الخبر في اللينك الموجود على "تويتر" أو "فيسبوك"، يتدفق الأدرينالين إلى جسدك، تهرع بالدق عليه، ليطل عليك إما خبرٌ هزيلٌ لا محتوَى له، أو مضمونٌ لا علاقةَ لها بالعنوان القنبلة.
وبالمناسبة، فإن القنابل التي تنفجر في وجوهنا ليست مقتصرة على قنابل يصنعها ممسوحو الفكر، منزوعو العقيدة، مغيَّبُو العقول مسلوبو الإرادة الدينية فقط، لكن منها كذلك ما يصنعها ويفجرها الباحثون عن الشهرة السريعة والمكسب الآني حتى لو كان ذلك على حساب المشاركة في تغييب المزيد من العقول وتسطيحها ومحوها.
الملاحظ أن كثيرًا في عالم الصحافة التقليدية (والمقصود بالتقليدية هنا المهنية التي تعتمد الخبر والمعلومة والتدقيق) دخلوا في منافسة حامية مع عالم الصحافة الشعبية الساكنة جنبات السوشيال ميديا. كلتاهما أرض خصبة للإبداع والتمكين والتثقيف. لكن كلتيهما أيضًا أرض خصبة للنصب والتجهيل والإغراق في وحل الترند.
الصحافة في جميع أنحاء العالم تعاني، وتتعرض لأخطار داهمة. منها من استسلم، ومنها من يعافر، ويحاول، ويثابر بالتمسك بتلابيب المهنية، ومنها ما يرتدي زي المهنية ويحمل أطنانًا من القنابل التي تبدأ بالعنوان، وتمر بالمحتوى، ولا تنتهي لأن قاع الترند بالغ العمق.
(مصراوي)