الفيلسوف غاضبًا.. لقاء مع روجيه جارودي

بإرادته الحرّة.. قرّر أن يخلع نعليّه، وأن يمشي على الشوْكِ مرحًا. ارتحل من مذهبٍ إلى مذهب، ومن دينٍ إلى دين. وفي كلِّ خطوةٍ أثارَ فيها غبارًا كثيفًا.. كان ينظر وراءه قليلًا ثم يمضي.
التقيتُ الفيلسوف الفرنسي الشهير روجيه جارودي عند الرئيس الليبي الأسبق معمّر القذافي في مدينة سرت. كان القذافي لايزال في ضجيجِه.. مزيجًا من الأفكار والأوهام. وقد زرناه في الخيمة الرئاسية لأجل كسْر الحصار، فخطبَ فينا عدّة ساعات ضدّ كل شئ!
تعرفّت عند القذافي على شخصياتٍ مهمة. التقيتُ رئيس بنجلاديش حسين محمد إرشاد، ورئيس زامبيا كينيث كاوندا. كما التقيتُ وزير الحربية المصري الأسبق الفريق أول محمد فوزي ومدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر سامي شرف. وكان من حظّي أنّي التقيتُ وناقشتُ الفيلسوف روجيه جارودي.
كان جارودي يحمل نسخةً من كتابه "الولايات المتحدة.. طليعة التدهور". سألتُ جارودي عن كتابه الجديد، وعن مدى ثقته في أنّ العالم يشهد خريف الإمبراطورية الأمريكية. قال: "لقد أصبحت أمريكا سيّدة العالم، وفيها كلّ ركائز القوة. فيما قبل كان العالم قوتين عظيمتين: أمريكا والاتحاد السوفيتي، وقبلهما كانت فرنسا وبريطانيا. وكان هناك باستمرار هامش للمناورة.  لقد انتهى كل ذلك الآن. أمريكا أصبحت تسيطر على كل شئ". توقّف جارودي قليلًا ثم عاد ليقول: "إن القوة الأمريكية هى قوة باطشة. إن إبادة الهنود الحمر في الفترة من 1800-1835 أنهتْ شعبًا تعداده (20) مليون نسمة.. ولايزال العنف مكوّنًا أساسيًّا في الثقافة الأمريكية. وفي أوّل مرة زرتُ فيها نيويورك شاهدتُ (12) قناة تليفزيونية.. كل قناة دقيقتيْن، وقد سمعتُ (73) طلقة رصاص".. "إن أمريكا ليست مسلسل دالاس، ولا هى مسلسل سانتا باربرا.. إن هذه هى أمريكا السينمائية وليست أمريكا الحقيقية". كان جارودي يتحدث كشيوعي سابق، قضى معظم حياته الفكرية يهاجم الرأسمالية الأمريكية. كما أنه حصل على إحدى درجاته العلمية من جامعات الاتحاد السوفيتي.
قلتُ للفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي: إن الولايات المتحدة هى سيّدة العالم كما ترى. وهى تمتلك كل ركائز القوة.. فمن أين أتتْ بدايات الانكسار أو طلائع التدهور كما تذهب في كتابك. قال الفيلسوف - بإنجليزيته الغاضبة: "الاقتصاد هو طليعة التدهور. الاقتصاد الأمريكي يقوم على المضاربة وليس الإنتاج الحقيقي. البنوك الأمريكية تشبه صالات قمار.. تشتري العملة الصعبة بأرخص الأسعار وتبيعها بأعلاها من دون أن  يكون هناك اقتصاد حقيقي. هى ثروة ورقية.. أمريكا تتكسّب من الدولار، من فارق البيْع والشراء مع الدول الأخرى. إنها تبيع الدولار بأعلى من السعر الحقيقي وتنفق من فائض السعر على الرفاهية الأمريكية. وهى تفعل ذلك كله تحت الحماية العسكرية للدولار.
إن أمريكا - بحسب جارودي - هى دولة الحزب الواحد، هو "حزب المال".. الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي ليسا حزبيْن بل هما اثنان في واحد.. هو حزب المال.
سألتُ الفيلسوف الأوروبي عن أوروبا.. عن قارّته والنظام العالمي الجديد. قال: لقد سقط الاتحاد السوفيتي، ولم تتمكّن أوروبا من أن تصبح منافسًا لأمريكا.. بل هى مجرد خادم. وليست معاهدة ماستريخت التي وقّعت عام 1991 بهدف الانتقال بأوروبا من صيغة "المجموعة" إلى صيغة  "الاتحاد" إلّا تدشينًا لهذه التبعيّة السياسية والعسكرية والأخلاقية الأوروبية لأمريكا.
لقد خرجت أوروبا من مسرح الأحداث لتصبح قوة تابعة فقط لا غير. أخلتْ أوروبا الساحة لنموذج استعماري جديد، إنّه استعمار عالمي يشمل العالم بكامله تحت قيادة أمريكا وحدها. إنهم يتحدثون عن الكوكب باعتباره قريتهم. كان جورج بوش الأب يتحدث بـ"الطول" فيقول: "سننشئ منطقة سوق حرة من آلاسكا إلى أقصى جنوب القارة الأمريكية. وكان وزير الخارجية جيمس بيكر يتحدث بـ"العرض" فيقول: سننشئ منطقة سوق حرة من فانكوفر إلى فلاديفوستوك!
قلتُ للفيلسوف: "إنها الأطروحة الرأسمالية.. هى حرية السوق، والكل سيستفيد من إلغاء الحواجز والحدود.. سواء أكانت هذه الحدود بالطول أو بالعرض.. أم إنك لم تتجاوز النظرية الكينزية، وترى أن تدخل الدولة هو الحل الأمثل، وإدارتها هى الأفضل".. قال جارودي: "أنا لستُ كينزيًّا.. أنا أقول بالحرية، ولكني أيضًا أقول بضرورة توافر القدرة أثناء حرية التبادل. إنّه لا توجد عدالة في حريّة التبادل بين القوى والضعيف.. ستكون هذه هى "حرية استغلال" وليست "حرية تبادل".
إنني لا أذهب إلى "الكينزيّة" كما أنني لا أذهب إلى "النيوليبرالية". إن أفكار ميلتون فريدمان وفون هايك.. ودعوتهما إلى تراكم الثروة والسلطة في جانب، والتبعية والبطالة في جانب آخر هى فلسفة خاطئة، ولا يمكن لها أن تنجح.
قلتُ للفيلسوف: إذن أنت قد انتقلت إلى منطقة وسطى بين اليمين واليسار.. قال جارودي: "العالم يبدو لي مثل وضْع فرنسا تحت الاحتلال الألماني، لا يمين ولا يسار.. إمّا أن نقاوم أو أن نصبح عملاء".
اقترب جارودي من الإسلام، وفي الثمانينيات أعلن في مركز جنيف الإسلامي اعتناقه الإسلام.. ثم دعا لاحقًا إلى ما أسماه "الإبراهيمية الجديدة" أي توحيد الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية. في رحلة الإسلام لاقى مديحًا كبيرًا حين ألّف كتابه "الإسلام دين المستقبل"، وفي رحلة "الإبراهيمية" لاقى نقدًا شديدًا، واتهمه البعض بالردّة. ولم تكن محاولة التقريب بين الديانات الإبراهيمية هى أولى المحاولات التوفيقية، فلقد حاول فيما قبل التوفيق بين المسيحية  والشيوعية.. غير أنّه لم يتمكّن.
استمرت رؤية جارودي للإسلام.. باعتباره ذلك الدين الذي اكتسب قوّته من استيعابه الثقافات والحضارات الأخرى، وأن "الانفتاح" هو الذي جعل الإسلام  قويًّا ومنيعًا".
قلتُ للفيلسوف: إزاء تقلبّات العالم المعاصر التي تراها في كل مكان.. كيف ترى المستقبل؟ قال جارودي: إننا في المستقبل بالفعل. نحن لا نعيش في المضارع.. لقد دخلنا الغد منذ الأمس. إن مشروع الصين العملاق "طريق الحرير الجديد".. من شنغهاي إلى روتردام..  هو جزء من ذلك  المستقبل الذي بدأ. ثم مضى الفيلسوف: يحتاج العالم إزاء هذا "المستقبل - المضارع" إلى أن يجدّد الحداثة. لابد من حداثة جديدة تتجاوز التجربة الغربية إلى قواعد الإيمان والمساواة والتوازن بين الأمم. إنّنا إذا لم نفعل ذلك فسوف نصرخ من المعاناة من دون أن يسمعنا أحد.. سوف نعلِّق الإنسانية على صليبٍ من ذهب!
( الاهرام )

التعليقات