اقتصاد الجليد !

زرتُ روسيا الاتحادية عدة مرات، لكن هذه كانت زيارتي الأولى إلى مدينة سانت بطرسبورج. إنها مدينة مذهلة يقطعها مائة نهر.. يقسّمها إلى قرابة الخمسين جزيرة.
بدتْ لي المدينة صعبة الفهم للوهلة الأولى، حيث يربط المدينة مئات الجسور على الأنهار.. كثير منها متشابه. مشيت في شوارع المدينة على غير هدى، ثم بعد قليل أصبحت أرسم خريطة لها انطلاقًا من متحف الأرميتاج. إنّه ثاني أكبر متحف في العالم بعد اللوفر، وسيكون الثالث بعد افتتاح المتحف المصري الكبير.
يطلّ القصر على نهر وفي الخلف ساحة كبرى. تجوّلت في ساحة القصر.. هنا كانت الثورة الشيوعية عام 1917، حيث انتهى العصر الإمبراطوري وبدأ العصر السوفيتي. وقريبًا من الجانب الآخر تقع جامعة سانت بطرسبورج المرموقة بمبانيها الإثناعشر ذات التاريخ الأكاديمي والمعماري الشهير.
في جولةٍ تالية في سانت بطرسبورج، شاهدت نماذج لصواريخ قاريّة بعيدة المدى في متحف حربي، كما شاهدت - من الخارج - مصنع بناء السفن الشهير. إنّه المصنع الذي تم فيه بناء كاسحة الجليد النووية الشهيرة "أركتيكا". تعمل تلك الكاسحة بمفاعلين نووين ويمكنها شقّ الطريق وسط كتل جليدية يصل سمكها إلى ثلاثة أمتار. وتقول موسكو إنها أقوى كاسحة جليد في العالم.
يعمل المصنع نفسه في بناء كاسحتيْن جديدتيْن تعملان بالطاقة النووية. وفيما قبل كانت كاسحات الجليد ذات طبيعة مدنيّة، لكنّ بعض منها صار الآن عسكريًّا. تتضمن "كاسحة الجليد العسكرية" قاطرةً، وفرقاطة حربية مزودة بصواريخ كاليبر المجنحة، ويمكنها البقاء في الماء لمدة شهرين.
قريبًا من مصنع السفن وكاسحات الجليد، يوجد "متحف القطب الشمالي" حيث يجري عرض كلّ ما يتعلق بالطبيعة المثيرة للمنطقة القطبية الشمالية. ويمكن للسائح أن يشارك في رحلة إلى القطب الشمالي من مدينة سانت بطرسبورج.. حيث يتم الوصول إلى مدينة "مورمانسك" التي تسمى "بوابة القطب الشمالي"، ومنها تبدأ الرحلة على كاسحة جليد، وتصل تكلفة الدرجة الأولى في تلك الرحلة قرابة الثلاثين ألف دولار، ويُعد "متنزه القطب الشمالي" أبرز معالم "السياحة القطبية" في ذلك المكان القصىّ من العالم.
ظلتُ أفكر في تلك المعالم أثناء الطريق من سانت بطرسبورج إلى بلدة بيترهوف. كان الطريق دافعًا للتأمل، فهنا كانت وقائع الحرب العالمية الثانية. سمعتُ من المرشدة السياحية بينما نتجول في حديقة قصر بيترهوف شرحًا لكيفية إقتلاع تماثيل القصر، ودفنها تحت الأرض، حتى لا يحطمها النازيون. وكيف أن عملية الترميم التي بدأت عام 1945 لاتزال قائمة حتى اليوم!
يطلّ قصر بيترهوف على خليج النرويج. كان المشهد بديعًا بلا حدود.. الماء أمام الماء.. جمال ينافس الجمال ويضيف إليه. في تلك الأجواء الخلابة نجحت قضايا السياسة في أن تدفع المتعة إلى الفكرة.. والتذوق إلى التأمل.
تذكرت قراءات عديدة عمّا يجري ويمكن أن يجري في خليج النرويج، عن أخبار السفن والغواصات والطائرات، وطلائع حرب باردة في المكان.. ثم عن تلك الاحتمالات لحربٍ جليدية تستعد لها كل الأطراف.
كان القطب الشمالي منطقة ثلجيّة صلبة توجد في الأدب أكثر مما توجد في السياسة. لكن جديدّا بدأ يدب في المكان. لقد ارتفعت درجة الحرارة في يوليو 2019 - حسب إدارة المحيطات والغلاف الجوي الأمريكية - لتسجل أعلى درجة حرارة في القطب الشمالي على مرّ التاريخ.
هناك ذوبان غير مألوف في بحر جرينلاند. وفي عام 2030 سيكون المحيط المتجمد الشمالي خالٍ تمامًا من الجليد طيلة أشهر الصيف.
في عام 2018 مرت سفينة عبْر القطب الشمالي في فصل الشتاء من دون كاسحة جليد.. للمرة الأولى. كانت السفينة تحمل الغاز المسال. وتسعى روسيا ليكون ذلك طريقًا رئيسيًا لنقل الغاز بما يوفر ثلث الوقت أو يزيد. إن الصين ليست بعيدة عما يجري، ذلك أن علماءها يجرون التجارب منذ سنوات في القطب الجنوبي، وباتت هناك نخبة صينية ذات خبرة رفيعة في "علم الجليد"، وهو العلم الذي شهد تطورًا كبيرًا على أثر تطور "الدراسات القطبية" المعاصرة.
أسست الصين "المصلحة الصينية للقطبين الشمالي والجنوبي"، وفي سبتمبر 2019 اقترحت التعاون الدولي في القطب الشمالي تحت عنوان "اقتصاد الجليد والثلج"، وفي أكتوبر 2019 أطلقت أول كاسحة جليدية صناعة صينية. تشكَّك اليابان في نوايا الصين وترى أنها تبني أساسًا لـ"حزام جليدي لطريق الحرير".. من أجل الوصول إلى الممرات والموارد.
بالتوازي مع الاهتمام الصيني الأمريكي بالقطب الشمالي.. قامت روسيا بدعم أسطول نقل الغاز المسال عبر القطب الشمالي بالعديد من الناقلات. كما بدأت موسكو مع شركاء آخرين بناء مصنع لتسييل الغاز الطبيعي في شبه جزيرة جيدان في القطب الشمالي. وفي مايو 2019 أعلنت وزارة الدفاع الروسية تأهيل (19) مطارًا عسكريًا في المنطقة القطبية الشمالية، بعد أن قامت عام 2018 بدعم "المنظومة القطبية للدفاع الجوي".. حيث تم نصب منصات صواريخ تعمل في ظروف حرارة (50) تحت الصفر.
تراقب واشنطن كل ذلك من غير قبول. إن الولايات المتحدة التي لم تصادق على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لا تريد أن تجعل من طريق بحر الشمال مضيقًا روسيًا داخليًا، بل مضيقًا دوليًا. وحيث لا توجد اتفاقية دولية تحكم الأمن في القطب الشمالي مثل اتفاقية القطب الجنوبي.. فإن واشنطن لديها خططها لعسكرة القطب الشمالي، وخوض حروب قطبية كبرى ما لم تنجح في الحصول علي مزايا كافية.
يقدر خبراء الطاقة حجم الغاز والنفط في القطب الشمالي بأكثر من ثلاثين تريليون دولار، وهو رقم يثير لعاب الجميع. وحسب الجنرال جيف آر ماك موتري مدير العمليات في سلاح البحرية الهولندي فإن "الحرب الباردة رقم (3) قد بدأت في هذا المكان".
عند "الحرب الباردة الثالثة" أصبحت برودة الجو في "بيترهوف" فوق الاحتمال. غادرت خليج النرويج وأنا في دهشة كبيرة: لقد تحوّل ذوبان الجليد من كارثة إلى فرصة.. وتحولت أزمة البيئة إلى مجال للاستثمار. انهزم الاقتصاد أمام الاحتباس.. وانهزم أنصار الحياة أمام شركات النفط.

التعليقات