أفلام "قرطاج" فى السجون
كما توقعت بالأمس، كانت ليلة المنتج ومدير المهرجان نجيب عياد، الذى كان حاضرًا بقوة فى كل التفاصيل، واختار كل الفقرات التى تابعناها فى الحفل، ماعدا واحدة وهى تأبين نجيب عياد!!.
وضع كل الخطوط، بما فيها اختيار فيلم الافتتاح للمخرج الكبير نورى بوزيد (عرايس الخوف).. تكتشف أن علاقة عياد بالفيلم بدأت وهو مجرد سيناريو، ثم تحمس ليصبح الافتتاح تونسيًّا، ومن حق- طبعًا- البلد المضيف أن يحتفى بالسينما الوطنية التى تحمل اسم البلد، كما أن (بوزيد) أحد أهم أعلام المخرجين على المستوى العربى، ورحلته تقترب من أربعين عاما منذ أن قدم فيلمه (ريح السد) الحاصل على (التانيت الذهبى) فى قرطاج.
(التيمة) الدائمة فى أفلام نورى هى التسامح العرقى والدينى واللونى والثقافى، وهى هدف العالم كله الآن، لأن الدماء لا تنجب سوى الدماء، والانتقام لا يعرف أبدًا الارتواء، تونس ليست بعيدة عما يجرى فى سوريا، وكما فى العديد من دول العالم وليس فقط عالمنا العربى، أحداث متعددة تؤكد أن الإرهاب الذى يتدثر عنوة بالدين تجاوز كل الحدود، (داعش) تمكن بما لديه من أذرع طويلة فى العالم من أن يغسل أدمغة كثيرين، وشاهدنا أكثر من فيلم أوروبى يتناول كيف أنهم وصلوا إلى تلك العقول الأوروبية واقتحموها، رغم الحاجز الثقافى فى اللغة والدين، إلا أنهم تمكنوا من إيجاد ثغرة ما اخترقوها ثم احتلوا الوجدان، وهو ما حدث أيضا فى تونس ومصر والجزائر وغيرها، وهناك من ذهب بالفعل إلى الدواعش فى سوريا عن طريق إسطنبول، فهى المحطة الرئيسية لتوريد الإرهابيين، نقطة الانطلاق إلى دائرة التطرف والدموية.
بطلتان تونسيتان عادتا من داعش إلى أرض الوطن قبل 6 سنوات ومثلى جنسيا، العمق الذى قدمه (بوزيد) يتوقف عند فضيلة التسامح، وهى الفضيلة الغائبة، أى أنك تُطل من زاوية الآخر بدلًا من الإدانة المسبقة.
الافتتاح يجمع بين الفن الإفريقى والعربى، وأيضا إطلالة على السينما اليابانية، حيث تم تكريمها مع سينما لبنان ونيجيريا وتشيلى، وتكريم سينما أربع دول فى مهرجان واحد أراه رقمًا كبيرًا. قرطاج مهرجان عربى إفريقى، ومن الممكن أن يراه البعض إفريقى عربى، لا بأس، هكذا بدأ عام 1966 من خلال الناقد الونسى الراحل الكبير الطاهر شريعة، ولهذا أرى أن إلقاء الضوء على بلدين فقط فى كل دورة يعبران مباشرة عن التوجه الجغرافى كافٍ جدًّا، عربيًّا وإفريقيًّا.. عندما تتعدد التكريمات تضيع قيمة التكريم، وهى دعوة أتمنى أن يتنبه لها عدد من مهرجاناتنا المصرية التى تتباهى سنويا بعدد التكريمات.
قرأت- مع الأسف- أن مخرجى الفيلمين (ستموت فى العشرين) لأمجد أبوالعلاء و(الخرطوم أوفاسيد) لمروة زين، لن يتمكنا من الحضور لأسباب روتينية، الفيلمان سيعرضان رسميًّا فى غياب المخرجين.. أنتظر أن تتمكن إدارة المهرجان من إيجاد حل خلال هذه الساعات لنرى أمجد ومروة بيننا.
مصر مشاركة بأكثر من فيلم فى المسابقة الرسمية الفيلم الطويل (بعلم الوصول) هشام صقر، وفى القصير (حبيب) شادى فؤاد، كما أن الفيلم المصرى (لما بنتولد) إنتاج معتز عبدالوهاب وإخراج تامر عزت عُرِض أمس خارج نطاق التسابق الرسمى، وسوف ينتقل للعرض فى أحد السجون التونسية يوم الجمعة.
تعوّد مهرجان قرطاج فى السنوات الأخيرة أن يمتد نشاطه وعدد من أفلامه للسجون بمختلف درجاتها (جنح) و(جنايات)، وأيضا النساء والرجال، وتقام أيضا ندوات لأبطال الفيلم مع النجوم والمخرج، وهى تجربة رائعة تعنى رسالة واضحة جدًا للعالم عن حقوق الإنسان، يبعث بها المهرجان سنويًّا، وأتمنى أن يفكر مهرجان (القاهرة السينمائى) مثلا لتنظيم عروض موازية فى دار الأيتام، وأيضا ذوى الاحتياجات الخاصة، وهو هدف اجتماعى يجب ألا يغيب عن رئيس المهرجان الكاتب والمنتج محمد حفظى، من الممكن أن يفكر فيها هذا العام.
كانت لى تجربة سابقة قبل عامين فى الحضور لأول مرة أشاهد فيلما سينمائيًّا فى السجن ومع عدد من النزلاء يتجاوزون 500 مسجون، الفيلم التونسى «زيزو» للمخرج فريد بوغدير، المهرجان متخم بالأفلام والندوات، ولكنها تجربة من الصعب تكرارها، ولا يمكن سوى أن تسعى إليها حتى لو كبّدك ذلك خسارة 6 ساعات من اليوم المشحون بالأفلام والندوات، أن تشاهد فيلم سينمائى وأن تحضر نقاشًا يتناول كل التفاصيل الفنية مع مساجين لا أظنها دعوة من الممكن أن تقاوم.
أروع ما فى قرطاج هو الجمهور التونسى، المنصات الموسيقية والغنائية فى الشوارع المحيطة بالمهرجان، حيث تستمع إلى موسيقى (أنت عمرى) لأم كلثوم مع (لامونى اللى غاروا منى) للطفى بوشناق.. الشوارع تكتظ بالجمهور، فهو ليس مهرجان دولة. صحيح أن وزارة الثقافة التونسية هى التى تتولى إقامته، ولكن الصحيح أيضا أن هناك مجتمعًا مدنيًّا هو الذى يمنح المذاق الخاص للمهرجان، المهرجان أولًا وحتى عاشرًا للجمهور، وهو ما أتمنى أن أراه فى مهرجانات بلادى!!.
(المصري اليوم)