أهل التوبة وأهل الفن!

تذكرت حوارا قديما بينى وبين محمود حميدة، ربما قبل ربع قرن، قال لى إن السيدة الفاضلة والدته ذهبت لأداء العمرة، وهناك بدأت تدعو ربنا قائلة: (ربنا يهديك يا محمود يا ابن بطنى وتسيب التمثيل وتشتغل بشهادتك)، محمود يحمل (بكالوريوس تجارة)، وعندما كررت الدعوة بصوت مسموع سألها عدد من المعتمرات: (أى محمود تقصد؟)، فقالت اسمه الثنائى، ففوجئت بأن كل السيدات يطلبن منها أن توصل له السلام، لأنه ممثل محبوب وموهوب، وفجأة غيرت الأم مؤشر الدعوة ليصبح: (ربنا يكتب لك النجاح في التمثيل يا محمود يا ابن بطنى)، وهو ما رددته بعدها كل المعتمرات، ولايزال محمود يمتعنا بفنه ببركة دعاء الوالدة وباقى المعتمرات.

لماذا عادت تلك الواقعة لتحتل الذاكرة؟ لأن شقيقة أحمد زكى، في أعقاب إعلان وفاة هيثم، استضافتها إحدى القنوات وقالت بحسرة إن هيثم كان حريصا على أن يترك مجال الفن ويعمل بشهادته بكالوريوس تجارة أعمال، وأضافت حتى لا تسرقه الدنيا مثلما سرقت أباه.

طبعا أنا متعاطف جدا مع عائلة أحمد زكى بعد أن تلقوا هجوما عنيفا وغير مبرر، لأنهم لم يتسلموا جثة هيثم أحمد زكى من المشرحة كما يقتضى القانون، حيث تحمل نقيب الممثلين أشرف زكى تلك المسؤولية عنهم، فهم مجروحون ومكلومون على فقدان هيثم، ولم يتواصل معهم أحد حتى يسارعوا بالمجىء للقاهرة من الشرقية، ما استوقفنى هو تلك النظرة المتدنية للفن، هي ثقافة عامة لا يمكن إنكارها لأنها متجذرة في الشارع المصرى، تتجاوز قطعا عائلة أحمد زكى، تضع الفن في خانة الرذيلة الذي لا يمحوه سوى الهداية باعتزال الفن. نكذب على أنفسنا عندما نتباهى بأن الزمار والطبال والمشخصاتى والقرداتى لم يكن مسموحا لهم في زمن يوسف بك وهبى بالشهادة أمام المحاكم، وأن المجتمع تغير وأصبح يأخذ بشهادتهم، إلا أنهم لا يتمتعون رغم ذلك برضا اجتماعى.

تلك هي المشكلة التي لانزال نعيشها، عائلة أحمد زكى كانت تدرك أنه يحظى بمساحة كبيرة من التقدير والحب، ومؤكد شعروا داخليا بقدر من الفخر أن هيثم ضمن على الشاشة الاستمرار لاسم أبيه، إلا أنهم أيضا لاتزال تسكنهم نظرة احتقار للفن وكانوا يتمنون أن يصبح هيثم طبيبا أو مهندسا أو رجل أعمال قدّ الدُّنيا، إنه قانون يفرضه المجتمع، ويرسل بين الحين والآخر إشارات علينا أن نلتقطها.

أتذكر تسجيلا طريفا استمعت إليه قبل نحو عشر سنوات في الإذاعة المصرية يعود غالبا لمطلع الستينيات. حفل (أضواء المدينة) والفقرة للمطرب الكبير محمد الكحلاوى، الذي بدأ بغناء (لجل النبى لجل النبى/ دى القاعدة حلوة والنبى/ عند النبى) وسط تهليل وحفاوة الحاضرين، بعدها مباشرة أمسك بالميكروفون قائلا والآن سأغنى (آه يا زينة يابا آه يا زينة)، وهى أغنية بدوية قدمها الكحلاوى في أحد أفلامه، حيث تفرد بأداء هذا اللون، وقبل أن تبدأ الفرقة الموسيقية في عزف المقدمة الموسيقية، أضاف: «سوف تشاركنى على المسرح الراقصة العالمية نجوى فؤاد».

طبعا اللحن إيقاعه راقص، واستمعت إلى تصفيق الجمهور، وكان الكحلاوى كعادة مطربى هذا الزمن يشاركهم التصفيق، ولا أتصور أن هناك من اعتبر الأمر يشكل خروجا على الوقار، الناس التي كانت في حالة دروشة مع (لجل النبى) انتقلوا إلى حالة من النشوة مع هزات نجوى، هذه نقرة وتلك نقرة!!.

التعليقات