التاريخ والخيال.. الحقيقة ليست هى دائما الوثيقة!
الأربعاء القادم سيصبح فيلم «الرجل الأيرلندى» متاحًا للجميع، عبر منصة «نتفلكس»، ورغم ذلك كان المهرجان حريصًا على أن يحصل على السبق ويعرضه فى الافتتاح، السبق بالمناسبة من الممكن أن يصبح مجرد ساعات، مثل فيلم «شفرة دافنشى» الذى افتتح به مهرجان «كان» قبل نحو عشر سنوات، وفى اليوم التالى كان معروضًا فى أغلب دول العالم، باستثناء مصر التى تحفظت فيها الكنيسة ودعمها الأزهر، ووزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى الذى صادر وقتها أيضا الكتاب المأخوذ عنه الفيلم، وتلك قصة أخرى.
أتيحت لى مشاهدة «الرجل الأيرلندى» فى عرض محدود قبل بداية المهرجان بأيام قلائل، زمن الفيلم هو المشكلة وليس إيقاعه، الشريط السينمائى يتحرك برشاقة فى مرحلة زمنية تتداخل فيها الأزمنة 40 عاما، منذ الخمسينيات وحتى التسعينيات، فهو قائم كسيناريو على استعادة الحدث من لحظة حاضرة (الفلاش باك) لكنه لا يلتزم حرفيا بهذا المنهج، قد يقفز أو يتراجع، «زجزاجى»، إلا أنه فى كل الأحوال يضبط الزمن بكل مفرداته الشكلية والجمالية والنفسية، كما أنه لا ينفى عن منهجه إعمال الخيال، يستند إلى حقيقة لكنها ليست بالضرورة هى الوثيقة.
يظل السؤال عن طول زمن الفيلم عن المعتاد، فهو يصل للضعف، عرضه فى افتتاح المهرجان كان بحاجة لتغيير موعد بداية الافتتاح، فهو يوم استثنائى على الجميع، ولا تنس أننا فى مصر لا نضمن انضباط المواعيد التى تأخرت ساعة كاملة، والاستراحة التى تسبق العرض بدورها امتدت أكثر مما هو مقدر لها، وانتهى الحفل الثانية فجرا.
المهرجان قطعا يريد الحصول على الأفضل، والفيلم جاذب والدليل أنه فى اليوم التالى- وهى ظاهرة طبقا لمتابعتى- لا تحدث سوى مع الفيلم المصرى، امتلأت دار الأوبرا، ولم يكن هناك موضع لقدم، وكثر لم يتمكنوا من حجز تذكرة الدخول.
ما الذى تفعله المهرجانات الكبرى مع تلك الأفلام الأطول من المعتاد؟ تعرضها قطعا لكن مع تغيير حتمى فى الجدول، قبل نحو ثلاث سنوات عُرض فى مهرجان (برلين) داخل المسابقة الرسمية فيلم فلبينى زمنه 8 ساعات ونصف الساعة، فتغير الجدول تماما وبدأ العرض فى الصباح وليس المساء كما هو معتاد، وتطلب الأمر أكثر من استراحة، داخل الفيلم، التوصيف العالمى لزمن الفيلم الطويل بأنه ما زاد على 60 دقيقة، ولا يوجد حد أقصى وهناك فيلم فلبينى أيضا تجاوز 16 ساعة، ولا تسألنى هل من الممكن عرضه فى افتتاح أو داخل مسابقة رسمية، لو خصمنا ساعات النوم والاسترخاء باعتباره حقا طبيعيا للإنسان، فإن العرض يستغرق فى هذه الحالة يومين.
فيلم «الرجل الأيرلندى» راهن على الحقيقة، والتى من المؤكد لا يمكن اختصارها فى وجه واحد فقط، التاريخ المعاصر الذى نحياه يتم أحيانا تشكيله بحذف أشياء وإضافة أخرى، وفقا للمصالح. مارتن سكورسيزى تنتظر إبداعه كل المهرجانات، وهو من هؤلاء الذين تحولوا إلى نجوم، الفيلم سيناريو ستيفن زاليان مأخوذ عن كتاب «انت تطلى المنازل» والخيط الأول للفيلم التقطه بطل الفيلم روبرت دى نيرو، وأشار إلى صديقه سكورسيزى، يؤدى دى نيرو دورا محوريا، القاتل المحترف السائق الخاص الذى أصبح زعيم النقابة العمالية الذى يحظى بمكانة شعبية يتستر من خلالها لتنفيذ كل جرائمه ويشارك البطولة، آل باتشينو وجو بيتشى، نصف أفلام سكورسيزى لنفس البطل دى نيرو وهذا قطعا يؤكد تلك الكيميائية بين النجم العابر للأجيال والمخرج المخضرم العابر أيضا للأجيال، صاحب البصمات الجماهيرية والفنية التى تجمع بين الحسنيين: المتعة الفنية الجمالية والحس الجماهيرى مثل «سائق التاكسى» و«الثور الهائج» و«الإغراء الأخير للسيد المسيح» و«المغادرون»، الرجل يقترب من الثمانين، الأبطال أيضا أعمارهم الافتراضية دراميا وأيضا واقعيا تقترب من عمر المخرج.
استخدم المخرج تقنية الكاميرا التى تؤدى لتصغير العمر بدلا فقط من المكياج الذى دأبت السينما طوال تاريخها على استخدامه، لتغيير العمر الزمنى صعودا وهبوطا، وبالطبع فى زمن الفوتوشوب، من الممكن تصور حدوث كل ذلك وما هو أيضا أكثر من ذلك!.
يبدو أن المخرج يستوعب كل المفردات الحديثة، والدليل أنه حسم الجدل الدائر عالميا وأخرج فيلما مصنفا أساسا للعرض على النت شبكة «نتفلكس»، الثانى أن المخرج يعود بأبطال مخضرمين والشاشة للشباب فى العالم كله، لكن بالطبع فإن هؤلاء الكبار لهم مساحتهم لديكم. «الجوكر» بطولة خواكين فينيكس، والذى ساهم فيه دى نيرو فى عدد مشاهد محدودة جدا تعد على أصابع اليد لكنها فعلا مؤثرة، إلا أنه هذه المرة هو الشخصية المحورية مع باتشينو وبيتشى.
تطل على الفيلم من خلال المذهب البراجماتى النفعى والذى يحرك المنظومة الأمريكية طوال تاريخهم، من الممكن أن يحيل كل شىء إلى مكاسب مادية وصفقات، ولا يهم فى هذه الحالة أن تتم التضحية برأس النظام، أطاحوا بكيندى بطلقات الرصاص ومن الممكن أن يفعلوها مجددا مع ترامب بطلقات الديمقراطية.
«الرجل الأيرلندى» يحكى عن أمريكا الزمن القريب، ويشير أيضا إلى الزمن الذى نكتوى الآن بناره!