يوسف شاهين هو مفتاح تلك العائلة.. المصريون بالعشق!
أثناء استكمال إجراءات وداع يوسف شاهين، قبل نحو 10 سنوات، هتف صوت داخل الكنيسة الكاثوليكية (حرام تلك ليست وصية الأستاذ)، وطالب الحضور بتنفيذ رغبة يوسف شاهين الأخيرة ليتم وداعه من جامع عمر مكرم وعلى صوت الشيخ محمد رفعت، وينقل النعش إلى الجامع ويصلى عليه طبقا للطقوس الإسلامية.
أنا واحد من شهود تلك الواقعة ومن الذين باح لهم يوسف شاهين بهذا الخاطر، فهو من القلائل الذين لا تجد لديهم مسافة بين الداخل والخارج ما يحلم به أو يفكر فيه ينطقه مباشرة لسانه، فهمت وقتها الرغبة ليس من منطلق دينى، فهو لم يكن يوما يشغله هاجس نوع الدين الذي يعتنقه ولكن الصدق في التعامل مع البشر، (يهمنى الإنسان ولو مالوش عنوان) التي غناها محمد منير، شعر عبدالرحيم منصور، وتلحين أحمد منيب في فيلمه (حدوتة مصرية)، تلك الشطرة الشعرية تعبر بالضبط عن فكر يوسف شاهين، وهكذا كان مكتبه في وسط مدينة القاهرة نموذجا عمليا لممارسة تلك القناعة، الكل مع اختلاف مشاربهم وعقائدهم متواجدون، فهو مصرى أولا حتى عاشرا، مصرى بالإرادة والعشق والرغبة، رغم (الجينات) الوراثية، التي تحمل أصولا متعددة شامية وأجنبية، إلا أنه لا يحمل جواز سفر سوى المصرى ولا يمثل إلا مصر ولا يقدم أفلامه إلا وهى تروى شيئا عن مصر، عندما أجلس إليه أجده يحرص على استخدام كل المفردات التي لا تخلو منها أحاديث أولاد البلد، وأولها الشتائم، التي تنم عن حميمية العلاقة، وأكلته المفضلة هي طبق كشرى بالشطة والبصل والدقة، وعندما لا يعرف اسم من يحدثه يطلق عليه مباشرة (دُقدق).
تذكرت تلك المواقف مع يوسف شاهين، التي كان ينبغى أن تصبح مفتاح هذا الفيلم العائلى، إخراج ماريان خورى، ابنة شقيقة يوسف شاهين، التي التحقت بالعمل في مكتبه وصارت أيضًا وهى وشقيقها جابى مع مطلع التسعينيات شركاء له، الفيلم يتحرك زمنيًا خلال أربعة أجيال، أم يوسف شاهين جدة ماريان، ثم جيل شاهين، وبعدها جيل ماريان وأخيرًا الجيل الرابع الذي تمثله سارة ابنة ماريان.
في المشهد الأخير تكشف سارة الشاذلى، عندما تقول لأمها ماريان، أثناء إجراء الحوار في (كوبا) حيث تدرس سينما هناك، (أنا مش عارفة أنا مين، أمى تحمل الجنسيتين المصرية واللبنانية، أنتِ مسيحية وأبى مسلم، نتحدث في البيت الفرنسية والعربية، أنا أفهم العربى وأتحدث به ولكنى لا أكتب ولا أقرأ العربية، أنا غنية في بلد فقير، من أنا بالضبط؟).
هذا هو الصراع المسكوت عنه، كنت أنتظر أن تضعه ماريان في المواجهة كخط رئيسى في التتابع الذي قدمته على الشاشة، صراع حسمه الجيل الثانى الذي يعبر عنه يوسف شاهين وأيضا الثالث في الأشقاء الثلاثة: ماريان وجابى وإيلى. بينما الجيل الرابع الذي تمثله سارة لايزال يسكن في منطقة شائكة مليئة بالألغام، وكان عليها أن تقدم ملمحًا لابنها الأكبر يوسف والذى أتصوره يقترب أكثر للحسم لتواجده الدائم في مصر، وارتباطه بالشركة السينمائية الممتدة من زمن يوسف شاهين.
الفيلم لا يروى حكاية ماريان، لكن عن عائلة بها خصوصية، أيضا تحمل رؤية عامة، قدمت ماريان حياتها بلا مواربة، زيجتها الأولى من شاب ثرى وسيم مسيحى، وكيف أن الأهل كانوا سعداء، ولكن ماريان لم تشعر بالسعادة، فحدث الطلاق، رغم أن (الكاثوليك) ملتزمون بنص الإنجيل (ما جمعه الله لا يفرقه إنسان)، وهم الأكثر تشددًا بين كل الطوائف المسيحية، في عدم السماح بالطلاق، سؤال لن تجد إجابته؟
تزوجت ماريان بعدها من مسلم، هل تقبلته العائلة المسيحية ببساطة؟ ربما لأن الثقافة التي تتمتع بها تلك العائلة لا تجعلها تتوقف كثيرا أمام اختلاف الديانة، وهو سؤال ثان لن تجد أيضا إجابته؟.
لقطات يوسف شاهين الأرشيفية تنعش الفيلم، وهو يبدأ بالحديث عن أمه وعن شقيقته (أم ماريان) وعن أبيها الذي كان شريكا له، رغم أنه لا يحبه، جابى ورث الصراحة في الحكى عن خاله، وهكذا يتحدث عن قسوة الأم والضرب حيث كان يناله العقاب بين الحين والآخر، ولا يجد أبدا أي غضاضة في اتباع هذا الأسلوب بدليل أنه، على حد قوله، بعد كل الضرب الذي تلقاه باستخدام أسلحة مساعدة مثل الشبشب، أصبح متربى كويس.
احتفالات الأسرة بأعياد الميلاد مأخوذة عن الأرشيف، وهذا الطقس الذي تحرص عليه وتجتمع حوله الأسرة خاصة في وجود يوسف شاهين بتركيبته المشعة والتى تضفى قطعًا على الفيلم قدرًا لا ينكر من الجاذبية، فهو يتمتع برحابة في تقبل الآخر، يصف دائما العائلة بـ(كوزموبوليتان)، يجمع كل الطوائف وليس فقط الأديان، وهكذا ستجد الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت وبنفس القدر يتوفر السُنّى والشيعى والدرزى، تلك الحالة التي حسمها يوسف شاهين بأنه الإنسان المصرى أولا، ولم تحسمها ماريان على شريطها السينمائى. حرصت ماريان عند تقديمها للفيلم للتأكيد على مصريته إنتاجيًا فلا توجد شراكة فرنسية، كما تعودنا في أغلب أفلام يوسف شاهين، بينما الكتالوج الرسمى أشار خطأ إلى أن الفيلم إنتاج مصرى فرنسى مشترك!!.
(لمصري اليوم)