«مينداناو» الفيلم الذى أشجانا نصادق الموت عندما نحيله إلى حياة!
أعلنت مساء أمس نتيجة المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى، لا يستطيع أحد أن يقرأ توجهات لجنة التحكيم، النتيجة تعبر فى نهاية الأمر عن تفاعل أعضائها، المؤكد أن المهرجان لا يمارس أى ضغوط على القرار الذى وصلت إليه قبل ساعات اللجنة، كما أن السينما المصرية والتى مثلنا فيها الفيلم التسجيلى الطويل «احكيلى» لماريان خورى، لن تلحق بقطار الجوائز، فلم نُقدم الأفضل، وهو قطعا دليل على أن المهرجان بلغ مرحلة النضج الفكرى، والجوائز لمن يستحقها، ولا يعيب الدولة المضيف أن تخرج خاوية الوفاض من الجوائز.
يبقى أن تصل الرسالة للدولة بأن مصر تتنفس سينمائيا «تحت الماء»، لم نجد فيلما روائيا طويلا يحمل اسمنا بين كل الدول المشاركة، البديل أن نسمح بأن نعرض أى فيلم مهما كان مستواه، ليصبح حضورنا له مذاق الغياب، هل فعلا هناك من يستشعر الخطر، أم أنها لم تعد تفرق، وعلى رأى ليلى مراد «إن جاء زيد أو حضر عمرو طب واحنا مالنا ان شالله ما حضروا»، أتمنى أن نجد من يسمع ويشاهد ويقرأ ليدرك أن غياب زيد أو عمرو يعنى غياب أول أسلحة الأمن القومى للوطن.
فى تلك الدورة التى أراها فارقة جدا فى عمر هذا المهرجان الذى يولد الآن من جديد، بعد أن عثر صانعوه على بداية خيط سحرى يصل إلى الجمهور، نعم لم يتحقق كل المطلوب، ولكن هناك ولا شك إرادة للخروج من النفق المظلم الذى عاشه المهرجان فى الألفية الثالثة، على شرط أن يتم الاستفادة من النجاح الذى حققته تلك الدورة وأيضا تلافى القصور فى التجربة بمواجهة صريحة من شخصيات تريد فعلا أن يظل المهرجان متصدرا الواجهة المصرية.
هناك الكثير ممكن أن يقال عن الدورة رقم 41 التى أقيمت فى ظل رحيل المدير الفنى والذى شكل- وعلى مدى عقود- روح مهرجان القاهرة السينمائى، الإعلامى والناقد الكبير يوسف شريف رزق، ولكن يجب أن ذكر أن بصماته باتت واضحة جدا وهو وراء الدفع بمحمد حفظى لصدارة المشهد وبالفعل جاء رهان رزق الله فى محله وتوقيته، وحماس الوزيرة د. إيناس عبد الدايم له أثبت أنه صادف أهله، انتقال دفة المهرجان لجيل تال وبفكر عصرى بات واضحا فى التعامل مع كل التفاصيل وبينها الرعاة، وأتصور أن الدولة تعاملت بقدر لا ينكر من المرونة فى تقبل الواقع الجديد.
مستوى الأفلام داخل المسابقة هذه المرة مرتفع وهى نقطة إيجابية، المهرجان مقيد داخل المسابقة بعرض أفلام لم يسبق من قبل (برمجتها) رسميا فى مهرجانات أخرى، العثور على فيلم يعتبر إنجازا، أما أنه فيلم مختلف وجاذب فهو ولا شك ذروة النجاح، وبالفعل عدد مما تابعته فى المسابقة الرسمية، أفلام جيدة، أختار لكم الفيلم الفلبينى (مينداناو) وهو اسم الجزيرة التى تجرى فيها الأحداث، الفيلم إخراج بريانتى ميندوزا، تجربة عالمية، كلنا اقتربنا منها، أن ترى إنسانا عزيزا عليك يذهب إلى حافة الموت، تتمزق بين الرجاء فى انتظار معجزة وبين الواقع الذى يشير إلى أن النهاية وشيكة، كيف نعيش تلك اللحظات؟.
البطلة طفلة فى الرابعة من عمرها وحيدة أبويها، عائلة فقيرة، تعيش على الكفاف، والمستشفى تابع للدولة ومكتظ بالمرضى، ومنه غرفة العناية المركزة، ما رأيته على الشريط يشير إلى أن الفقر لا يعنى أبدا الإهمال، ولا أتصور سوى أن المخرج يقدم لنا الحقيقة بعيدا عن أى تدخلات رقابية، الدولة ترعى المرضى الفقراء.
الورم انتشر فى المخ، بدأ فى عينها اليمنى، غطتها بعصابة ولم تنزع إلا بعد الرحيل، يتنازعك فى الفيلم إحساس قاس بألم تلك الطفلة التى تواجه المرض ببسالة، وتحصل على جرعات متزايدة من أدوية التخدير، والدها جندى على جبهة القتال فى معركة داخل الوطن يواجه حربا أهلية بينما ابنته الوحيدة تقترب من الشاطئ الآخر، والعدو يغرز أنيابه فى أنسجتها الرقيقة، وهو مدرك طبعا أنه لم يبق لها سوى أيام ولكنه يتشبث بالأمل المستحيل.
المقاومة يقدمها المخرج بمنطق نعيش معه عالم الطفولة، حكاية فولكلورية تراثية بأسلوب التحريك وترويها الأم ويكملها الأب، فهى تعبر عن عدو (تنين) يفترس الحسناء والملك سليمان يواجهه وتستمر المقاومة حتى بعد الرحيل، سألت الطفلة أباها: هل لو هاجمنى (تنين) تستدعى الملك سليمان؟، أجابها صادقا: سوف أقتله فورا بيدى، فقبلت الطفلة يد أبيها.
كيف تقبلت العائلة الصغيرة الموت، الموتى أيضا يتعذبون بقدر عذابنا، ولهذا يجب أن تصل رسالتنا إليهم بأننا نتقبل الموت، ولهذا لا ينتهى الشريط بمراسم الدفن ولكن والأسرة تمنح ملابس الطفلة إلى فتاة فقيرة تواجه نفس المرض، وتحضر الأم وهى الممثلة الموهوبة جودى أن سانتوس، التى قدمت ببراعة كل الأحاسيس المتناقضة فى لحظات، ولا أستبعد أن أسمع اليوم اسمها أفضل ممثلة، فهى تحضر مع الأسر الأخرى للأطفال الذين يقف أبناؤهم على الحافة فى انتظار الوداع.
هل هى مرثية عن الموت؟، أبدا هى دعوة للحياة التى نعيشها، بمن يبقى على الأرض ومن يدفن تحتها، الحياة تستمر بقدر صداقتنا بالموت، الفيلم أبكانى وأشجانى ولا يزال!!.