الحسَد الدولي

كان أول رقم لهاتف شخصي في التاريخ من نصيب مدينة ديترويت الأمريكية. كما كان إنتاج أول زجاجة مياه غازيّة من نصيب المدينة ذاتها. إنها المدينة التي أصبحت عاصمة صناعة السيارات، حيث العملاقيْن: فورد وجنرال موتورز. وهكذا أصبحت عاصمة ولاية ميتشيجن ذات الثلاثمائة عام، والواقعة على نهر ديترويت واحدة من رموز الحداثة في أمريكا والعالم.. السيارة والهاتف والمياه الغازيّة والكثير من معالم عصر الاستهلاك الكبير.
لا يحبُّ الأمريكيون الرقم (13) ويروْن أنَّهُ لا يدعو للتفاؤل، وتتفادى الكثير من الفنادق والمنشآت الأمريكية الرقم (13) في تعداد طوابقها. وقد زادت قناعة أهالي ديترويت بخرافة الرقم (13) حين أصبحت مدينتهم أكبر مدينة في أمريكا تعلن إفلاسها، وقد كان ذلك في عام 2013.
تجاوزت الديون (18) مليار دولار.. غادر السكان، وأُغلق ثمانون ألف منزل.. تراجعتْ خدمات الإنارة، والأمن. كما تعطلّتْ نصف إشارات المرور، وأُقفلت معظم الحدائق. وقالت الصحف: إن ديترويت المدينة المفلسة قد أصبحت مدينة أشباح.. إنها تحتضر في هدوء.
في خريف عام 2016 زار دونالد ترامب مدينة ديترويت، وهناك وعد بمستقبل أفضل. لكنّ اللافت للنظر في حديث الرئيس ترامب هو استخدامه لمصطلح "الحسد" في إطار النظم السياسية والعلاقات الدولية. وبعيدًا عن استخداماته المعتادة في الإطار الشخصي والاجتماعي المحدود. قال ترامب: "سأجعل ديترويت موضع الحسد الاقتصادي".. "في عهدي سيكون الاقتصاد الأمريكي موضع حسد العالم".. "المجتمع الدولي سوف يحسد أمريكا".
تؤمن كل شعوب العالم بظاهرة الحسد. يتحدث البعض عن الطاقة السلبيّة، وعن قدرة العيْن على تحطيم المادة والإنسان، وقدرتها على إحداث الموت وشقّ الحجر. استخدم المصريون الفراعنة وغيرهم: الخرزة الزرقاء، ورش الملح، واستخدامات الرقم خمسة، وحدوة الحصان، وكسر الفخّار، والإمساك بالخشب، وإطلاق البخور. وتقع هذه الأمور جميعًا خارج نطاق العلم.
إنّ ظاهرة الحسد بمعنى تمنّي زوال النعمة من الآخرين هى ظاهرة قائمة وحقيقية، ولكن التأثير المادي للحاسد على المحسود هو ما يثير جدلًا في العلم والدين.  وقبل أعوام نشرت الصحف المصرية ورقة بحثيّة بعنوان "حقيقة العين والحسد في الإسلام" للباحث سامح عسكر. وقد جاء في البحث أنَّ القرآن الكريم حين ذكر "الحسد" كان يعني "مجرّد" تمنّي زوال النعمة عن الآخرين. ولكنّه يبقى حسدًا لا قيمة له، إلّا إذا انتقل الحاسِد من "مرحلة التمنّي" إلى "مرحلة التنفيذ".
إنّ إبليس حين حسَد آدم عليه السلام، وتمنى زوال النعمة عنه لم يقم بحسده فقط، منتظرًا زوال النعمة بمجرّد الحسد. بل إنَّهُ ذهب إلى مرحلة التنفيذ وقام بتتَّبع آدم والتخطيط لإغوائه، والإيقاع به. ولو كان الحسد كافيًا - ولاسيما أن الحاسد هو إبليس نفسه - لاكتفى بالحسد، ولم يبذل جهدًا في الإغواء.
ذهب الرافعي في "تخيّلات العرب" إلى أن "العيْن" هى محض خرافة، ولا وجود لأثرها على الأشخاص أو الأشياء. كما أنّ الإمام القرطبي ونخبةً من المفسرين القدامي لم يمنحوا الحاسد سلطة أَذَى المحسود.  وفي تفسير الآية الكريمة "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ".. قال بعض المفسرين أنّ قوله تعالى " إِذَا حَسَدَ" إنما يعني أن الحاسد لا سلطان له إلّا إذا حسد.. أى إذا قام بفعل للإضرار بالمحسود، وليس مجرد الاكتفاء بالشعور الكريه بتمنّي إلحاق الضرر به.
إن مثل هذه التفسيرات تتفق وحقائق العالم. ولو كان إلحاق الأذى بمجرد تمني زوال النعمة، لزالتْ دول وشعوب، وانهارتْ شركات ومؤسسات، واختلّ منطق الكون، حيث تصبح أقدار الناس ومصائر الدول بأيدي حفنة من الحاسدين. وهو ما يخالف صحيح العقل وصحيح الإيمان. ولو  كان الأمر كذلك لأمر الله عباده بإخفاء نعمته حتى لا يلحق بهم أذى الحاسدين. ولكن الأمر الإلهي جاء على نقيض ذلك تمامًا. وفي سورة الضحى " وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ".
إنّ ظاهرة الحسد تشغل الجميع. وفي مجتمع مرموق كالمجتمع الألماني يخشى الناس الحسد. وفي الفيلم الوثائقي "في القمة" الذي أنتجته قناة "دويتش فيلله" جاء أن هناك (200) مليارديرًا في ألمانيا، وهو أكبر عدد من المليارديرات في أوروبا، ولكنهم مجهولون تمامًا بالنسبة للإعلام والشعب، ذلك أنهم يخافون من "مجتمع الحسد" في ألمانيا!
وفي السابق.. كانت بعض المحاكم السعودية تقبل قضايا الحسد. وقد نقلتْ صحيفة "عكاظ" السعودية عن عضو سابق في هيئة التحقيق والإدعاء العام قوله: "لقد جرى قبول بعض قضايا الحسد، وقد صدرت أحكام عقابيّة ضد الحاسدين، استنادًا إلى شهادة الشهود".
إنّ مفهوم "الحسد الدولي" الذي تحدث الرئيس ترامب بشأنه.. يمكن أن نجد له صدىً في تجارب النمو الآسيوية.. ذلك أن الصعود الآسيوي كان يرافقه تواضعًا جمًّا إلى حدِّ التشكيك في مستوى الصعود ذاته. وفي كتابه "الزلزال الصيني.. نهضة دولة متحضرة" يقول البروفيسور تشانغ وي وي: "إن الصين قد رفضتْ لفترة طويلة جدًّا استخدام مصطلح "نهضة الصين" خوفًا من إثارة ضغينة العالم الخارجي".. "إنها لا تتحدث عن التقدم الصيني، ولا النموذج الصيني".
في عام 2010 تراجعت اليابان للمركز الثالث في الاقتصاد العالمي، وأصبحت الصين في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة. ومع ذلك تُنكر الصين تقدمها الكبير وتقول باستمرار: "نحن دولة نامية، لايزال متوسط دخل الفرد عندنا عُشر متوسط دخل الفرد في اليابان". وقد روى لي الدكتور محمد نعمان جلال سفير مصر الأسبق لدى الصين، أنه حين التقى رئيس الصين أثناء تقديم أوراق اعتماده.. قال له الرئيس: لا تتصوّر أن الصين هى بكين، نحن لسنا كما ترى، أنصحك أن تذهب إلى خارج العاصمة، وسوف ترى الفقر والضعف في الريف الصيني.
إنّ سياسة "تجنُّب لفت الأنظار" التي أسّسها الزعيم الأسطوري "دينج شياو بينج" قد أفادتْ الصين في سنوات صعودها الكبير، من دون إثارة الخصوم، أو استفزاز الأعداء.
يحتاج العالم العربي إلى أن يأخذ الحكمة من الصين. لا يجب أن نكايد العالم، أو أنْ نسعى لنكون موضع "الحقد الدولي". ليس من الحصافة أن نُحدِث ضجيجًا أثناء رحلة الصعود.. بل يجب أن ننهض في صمت. إن من الفطنة رفعة الإنجاز وخفض الصوت. التواضع ليس فقط فضيلة أخلاقية، بل هو ضرورة استرتيجية.

التعليقات