قادم قادم يا تنوير..!
بدأ العد التنازلي. ساعات وتذهب 2019 إلى حال سبيلها، ونفتح أولى صفحات 2020.
و2019 شأنها شأن كل الأعوام؛ تذهب بحلوها ومرها، وتترك ما نود تذكره بكثير من الفرح وما نأمل في وأده بمزيد من القرف.
ونستقبل العام الجديد ببعض من البمب والصواريخ وكثير من الجدل والدوران في دوائر مفرغة تتسم بالسخافة وتتميز بالرذالة: هل يجوز الاحتفال بالعام الميلادي، وهل وضع شجرة عيد ميلاد في واجهات المحلات أو خلف زجاج الشرفات أمر جائز؟!
وغيرها كثير من الأسئلة السمجة السقيمة تدور حولنا، وترفع ضغطنا، وتلحق الضرر بمعدلات سكرنا.
فليحتفل من يؤمن بالبهجة، ويتقن فن التفرقة بين التفاهة والسطحية وبين الفهم والمسؤولية. وليمتنع عن الاحتفال من قرر أن يبقي على نفسه سجين الخرافة وقيد الخزعبلات.
وليعلم كل صاحب عقل وممتلك فكر أن هيمنة الخرافات وسيطرة الخزعبلات تصب، في نهاية الأمر، في خانة المصالح والسياسات وقواعد التحكم في الشعوب عبر فن الماريونيت. وهو فن أصيل، حين يمارس على البشر، حيث تعتقد الدمى البشرية أنها حرة طليقة تتحرك هنا وهناك، لكنها في حقيقة الأمر مربوطة بخيوط يحركها متقنو تحريك الدمى البشرية.
ونستقبل العام الجديد ونحن نعلم أن بيننا كثيرين استعذبوا دورهم كدمى يحركها آخرون. فحركتهم محدودة؛ لأنهم كلما خطوا خطوتين زائدتين يتم جرهم بالخيوط إلى الداخل. وكلما شطحوا شطحتين بما تبقى من أدمغة قادرة على التفكير، خضعوا لعمليات ترهيب وترويع فكرية تعيدهم مجدداً إلى حظيرة الدمى.
لكن بيننا أيضاً من لم يرتضوا بهذا الدور الذي غزا الأدمغة المصرية قبل نحو نصف قرن، فأصاب ثقافتها في مقتل، وضرب إبداعها ضرباً مبرحاً، وخلّف وراءه مريدين وتابعين استسهلوا الانقياد، وصاروا عبيد القواعد الجامدة المعدة سلفاً.
وأغلب الظن أن العام الجديد 2020 سيمضي قدماً في المواجهات المستمرة بين الفريقين.
صحيح أنها مازالت مواجهات مكتومة تلتزم أقصى درجات الحذر والحيطة، وصحيح أيضاً أنها تتقدم خطوة، وتتقهقر خطوتين في ظل تراوح السرعات الرسمية المستعدة لإزاحة الغمامة عن العيون وإماطة الأذى الفكري عن الطريق نحو التنوير والتثقيف والعلم والنور، لكن التاريخ لم يشهد يوماً توقفاً مفاجئاً لحركات تنوير أو إنهاء بجرة قلم أو طعنة سيف لمحاولات نهضة.
ستنهض مصر في وقت ما من كبوتها الفكرية المرتدية عباءة عقائدية. لن تحدث النهضة سريعاً أو قريباً، لكنها حادثة لا محالة. وحتى مع المقاومة الشرسة من قبل القائمين على أمر الانغلاق وحماية التراجع ورعاية شؤون التأخر والتقهقر والادعاء بأنهما خصوصيات ثقافية وموروثات عقائدية، فإن النور قادم قادم.
هذا القدوم قد تؤخره فنون وصم التنوير بأنه ضد الدين، وتقبيح التفتح باعتباره فسقا وزندقة، وذم التطهير وفصل الخرافة عن الواقع وكأنها خروج على الدين. لكن التأخير لا يعني الإلغاء أو العودة مجدداً إلى الوراء.
ووراء كل حركة تنوير شخصيات يكتبها التاريخ بحروف من نور وذهب، حتى إن وُصِمَت في حينها بالخروج على الأعراف. لكن الأعراف ليست ديناً أو ثقافة. منها ما يجب تنقيته، ومنها ما يتم زرعه عن عمد لتأخير الأمم وعرقلة تقدمها وشل قدرتها على البحث والعلم والإبداع.
زواج الطفلة ليس من الدين في شيء.
وتحريم تهنئة المواطنين لبعضهم ليس من الدين في شيء.
وتنصيب وسيط بين الإنسان وربه ليس من الدين في شيء.
وإطلاق أحكام حول من سيدخل الجنة ومن سيلتحق بالنار ليس من الدين في شيء. وتصنيف الخلق بناء على الملابس، ونوع التحية، والرِّجل التي تتقدم الأخرى ليست من الدين في شيء.
العالم يمضي قدماً في ثورة صناعية رابعة، ونحن نتناقش عما إذا كنا ندخلها بالقدم اليمنى، أم اليسرى، أم يفضل عدم الدخول من الأصل.
كل عام وأنتم متنورون... لأن التنوير قادم قادم.