محمود حميدة على نار «السبرتاية»
قبل نحو عامين، التقينا فى افتتاح مهرجان الأقصر، استعد محمود لكى يلقى كلمة عن صديقه الراحل محمود عبد العزيز، كان يجلس بجوارى متماسكا، صعد إلى المسرح، وقبل أن ينطق بكلمة غلبته دموعه، وعاد لمقعده وهو يجهش بالبكاء، بعد يومين جاءت الندوة، فلم تتوقف الدموع.
حميدة مزيج من عقل يقظ وقلب دافئ، هذا هو مفتاحه وكلمة السر فى علاقته بالحياة، بالفن. وعلى صفحته كتب قبل أيام، مشيرا إلى أنه مر 30 عاما عن وقوفه لأول مرة أمام كاميرا السينما فى فيلم (الإمبراطور)، فى زمن به كل هؤلاء النجوم عادل إمام وأحمد زكى ومحمود عبدالعزيز ونور الشريف ومحمود يسن وحسين فهمى وفاروق الفيشاوى، كان من الصعب بل المستحيل أن تقبل السينما نجمًا جديدًا، إلا أنه كان هدفًا لكبار المخرجين أمثال محمد خان وسمير سيف وعاطف الطيب وخيرى بشارة ويسرى نصرالله وطارق العريان، ثم تجده متألقًا على خريطة يوسف شاهين، ويشكل مع أسامة فوزي- أقرب المخرجين إلى قلبه- ثنائيا ناجحا، وتلمحه أيضا مع كاملة أبو ذكرى وهالة خليل وأحمد فوزى صالح، وغيرهم. المرونة هى عنوانه، ولهذا لا يزال مطلوبا، لم يبدد طاقته مشترطا مثلا البطولة المطلقة، يتعامل مع الدور باعتباره بطولة محمود حميده، وافق أن يسبقه ع (الأفيش) عدد من نجوم هذا الجيل، حتى من لم تتأكد بعد نجوميتهم، لم يحرمهم من هذا الشرف، هل يتذكر الناس بالضبط مثلا ترتيب اسم محمود المليجى فى فيلم (الأرض)؟ الإجابة: لا، هل ينسى أحد (محمد أبو سويلم)؟ الإجابة: مستحيل.
ذهن حميده حاضر بأبيات شعر يرددها نقلاً عن أبيه الروحى فؤاد حداد، شعر «حداد» هو دستوره الدائم، لم يلتق حميدة بأبيه الروحى، لم يدرك قيمته إلا من خلال الكاتب الكبير خيرى شلبى، ومنذ ذلك الحين بات حميدة عاشقاً متيماً بأبجدية حداد، الإحساس الشاعرى جزء من فن أداء الممثل، دائماً ما تلمح لدى كبار الممثلين هذا الملمس الإيقاعى، وكما أن هناك شعرًا بالفصحى وزجلًا بالعامية، فأنا أرى أداء «محمود حميدة» ينتمى أكثر إلى دنيا الزجل، فهو لا تربطه وشائج قربى أو نسب لقبيلة (شوقى) و(حافظ) و(البارودى)، ولكنه واحد من أبناء قبيلة (بيرم) و(حداد) و(جاهين)!!
فى رحلته مع السينما أخذ من «حداد» فلسفته فى فهم الواقع أولا قبل التعايش معه أو تغييره.
آخر مرة التقينا فى مهرجان (المنارات) بتونس، تم تكريمه باعتباره أحد رموز السينما المصرية، لم يقدم فى الندوة الجماهيرية، وكما تعودنا تلك البكائية التى تبدأ عادة بمقطع افتتاحى للترحم على زمن ولّى ولن يعود، وتنتهى بالسخرية من مفردات هذا الجيل، مرددين (سوق الحلاوة جبر واتقمعوا الوحشين)، على العكس وجد محمود أن تغير إيقاع فن أداء الممثل، تنويعة منطقية جدا على تغير إيقاع ومفردات الحياة.
فى زمن (النسكافيه) تغلى الماء وفى لحظات تصنع القهوة، بينما فى زمن فنجان القهوة، تبدأ بتحميص البن ثم طحنه، قبل أن يجد طريقه إلى الكنكة، ثم تضعه على نار (السبراتية) الهادئة لينضج واحدة واحدة. حميده لا يزال حريصًا أن يشرب فنجان القهوة (المحوّج)، وفى نفس الوقت يتصالح تمامًا مع من يرتشفون بجواره (مج النسكافيه)!!
(المصري اليوم)