«سيدة اللمسة الساحرة».. لم يقيدها كادر العدسة ولا بريق النجومية!
فى السنوات الأخيرة، حظيت نادية لطفى بأكثر من تكريم وأكثر من جائزة، المستشار عدلى منصور رئيس الجمهورية المؤقت فى عيد الفن يمنحها درعًا، مهرجان القاهرة بعدها يهدى دورته إليها، أكاديمية الفنون تسلمها درجة الدكتوراة الفخرية، تنال جائزة الدورة التقديرية، ومهرجان الإسكندرية يهدى دورته قبل الأخيرة إليها، والسطة الفلسطينية ممثلة فى محمود عباس تمنحها شهادة تقدير.. إنها الأيقونة المصرية، تشعرنا دائما بالإحساس بالفخر والثقة عندما تتصدر صورتها واسمها المشهد، فهذا يعنى أن «الإبداع والرقى والوطنية» هى العنوان. تملأ الدنيا طاقة إيجابية، فيض من الحضور والألق، هكذا تجدها داخل مستشفى المعادى العسكرى، بعد أن صار هذا المكان هو مقرها الدائم لاحتياجها إلى رعاية خاصة، بينما الحقيقة التى من السهل أن تلحظها هى أن نادية لطفى تمنح كل من يقترب منها رعاية خاصة، وقبل ذلك تملأه بالدفء والسعادة، لا تتعمد أبدًا ذلك، إنها تمارس فقط الحياة لنشعر بعدها بجدوى الحياة، أحالت المستشفى العسكرى إلى ثكنة إنسانية، من أقعدهم المرض بعد حرب 73 صاروا أصدقاءها المقربين.
نادية بالنسبة لى ليست مجرد فنانة كبيرة، إنها الإنسان أولًا الذى يحمل إليك شيئًا خاصًا وحميمًا، ولهذا تعددت لقاءاتى بها قبل وبعد وأثناء تأليفى كتابًا عنها.
هى من هؤلاء القلائل الذين أطلق عليهم توصيف شخصيات مدارية، إنها تلك الشخصية التى تحمل جاذبية خاصة كإنسان بعيد عن الكاميرا، وهؤلاء ليسوا بالضرورة ممن يمارسون الفن، ولكنْ لديهم فيض أعمق وهو الإنسان الذى يسكنهم وكأنه مغناطيس جاذب لكل الأطياف، ومن يدخل إلى دائرة هؤلاء، يظل من الدراويش والحواريين، ولا شعوريًا يجد نفسه وقد حلّق دون أن يدرى فى هذا الفلك، وتلك هى الفنانة (المدارية) نادية لطفى، بعد كل لقاء ستكتشف أن إحساسك بالحياة والبشر قد أضيف له شىء مختلف، وتقييمك لكثير من الأمور التى كنت تعتقد أنها بدهية لم يعد أبدًا كذلك، نادية تحفزك بعد كل لقاء على إعادة التأمل لكى تفهم أكثر، وتجد إجابات أصدق لأسئلة كنت تعتقد أنها لا تحتمل أبدًا إجابة أخرى، تحفزك وتشحذك لكى تُمسك بيديك الحقيقة.
بالنسبة لى لم تكن نادية مجرد فنانة عظيمة، الشاشة قطعًا تشهد بذلك، ولا يحتاج الأمر إلى شهادتى، شىء ما خاص جدًا وحميم جدًا يجعلها قريبة منى وكأنها جزء من بنائى النفسى، فلقد كانت ضمن عدد من الموهوبين الذين تبنّى وبشّر بموهبتهم الشاعر والصحفى الكبير كامل الشناوى، وذلك منذ بزوغ ومضة الإبداع عام 1958، كان عمى يقطن فى 24 شارع (النباتات) بحى (جاردن سيتى)، والذى صار يحمل بعد رحيله عام 65 اسم (كامل الشناوى)، بينما نادية تقطن فى رقم 5 من نفس الشارع، المسافة سيرًا على الأقدام لا تتجاوز ربما 7 دقائق، ولكن لا أتصور أن أيًّا منهما كان يحتاج لكى يصل للآخر أن يقطع تلك المسافة، التواصل بينهما دائما لا يحتاج لعبور الشارع.
نادية أيقنت منذ اللحظة الأولى وهى تطرق الباب أن الثقافة هى التى تمنح الفنان كل هذا الفيض من الحضور، إنها البنية التحتية التى تضمن أن يدرك من يتعاطى معها أن هناك ما هو أبعد وأرحب وأبقى مما يتحمس إليه من الأعمال الفنية، وأن عليه أولًا أن يفهم الحياة قبل أن يشرع فى ممارسة الفن، لم تكن مجرد فنانة فائقة الجمال، فى العمق يسكن ما هو أكثر جمالًا، وهكذا تجد أسماءً من أهم الكُتّاب داخل الدائرة القريبة من نادية، رغم تباين أفكارهم ومشاربهم، ومع كامل الشناوى ستلمح إحسان عبدالقدوس ومصطفى أمين ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة وجليل البندارى ومحمود السعدنى.. وغيرهم. نادية بطبعها وفى تلك المرحلة من العمر كانت تُنصت أكثر مما تتكلم. تتجاوز دائما دائرة النجمة المشغولة بمعاركها الخاصة.. وبمكانتها على الخريطة، لم تكن ممن يعتبرون أنفسهم فى سباق مع الآخرين ويجب أن يصل بسرعة للمركز الأول متقدمًا كل الصفوف، ولا يكتفى بهذا القدر بل يضع العراقيل لمن يجده يحاول الاقتراب، هى تعلم جيدا أن القمة تتسع بل تنتظر كل من يستحق، وأن البصمة الخاصة تظل بصمة خاصة، فلا أحد يصلح أن يكون بديلًا لأحد، طالما كان لديك ما تمنحه، ستظل فى بؤرة الدائرة.
نادية حاضرة بقوة فى كل تفاصيل الحياة، على كل المستويات ومختلف الأصعدة ستجدها دون أن تتعمد ذلك، «الإنسان المصرى والعربى وهمومه» هى الزاوية التى تُطل منها لتقفز بعيدا عن الدائرة التقليدية التى يُكبَّل عادة فيها المبدع ليصبح منتهى طموحه وجُل اهتمامه أن يمنح البريق فقط لاسمه، قفزت، بل قُل تمردت، أو الأصح أن تقول نادية أرادت أن تمنح الإنسان بداخلها المقومات اللازمة لكى يعيش كما يريد، لا كما يريدونه أن يعيش، وهكذا صارت نادية دائما هى بولا محمد شفيق، بعيدا عن أى مكياج، إنه الاسم الحقيقى الذى يناديه بها الأصدقاء المقربون، نادية لطفى هى فقط التى نراها على الشاشة الفضية، ونقرأ اسمها على (الأفيشات) و(التترات)، تلك حكاية أخرى، لا تدخل أبدًا فى صراع مع بولا محمد شفيق.
اعتركت الحياة فى دُنيا الله الواسعة، فلم يقيدها (كادر) العدسة ولا بريق الشاشة ولا تصفيق الجماهير، عندما وقفت مرة واحدة ويتيمة على المسرح لتؤدى دور (بمبة كشر)، أيقنت أنها يجب أن تظل مرة واحدة ويتيمة، وتتعجب رغم النجاح الطاغى الذى حققه العرض المسرحى، إلا أن نادية لطفى قاومت إلحاح صديقها المنتج سمير خفاجة، رفضت أن يتم تصويرها تليفزيونيا، وعندما سألتها: لماذا؟، أجابتنى: ما عنديش رأى قاطع ولا سبب مباشر، ولكنى فقط وقتها قلت إن تاريخى الذى أود أن يعيش للزمن القادم هو السينما، وليس المسرح، فلماذا أقحم نفسى بينهما؟. منحها الله حضورًا وألقًا، إلا أنها لم تكتفِ بهذا القدر، اشتغلت أكثر على الفنانة بداخلها، فهى تعلم كما يقولون أن الآلهة تمنح الموهوبين مطلع القصيدة، وعليهم أن يكملوا الباقى، فقدمت لنا أروع القصائد السينمائية فى فن أداء الممثل، منهجها على الشاشة ليس فقط عنوانًا مضيئًا للتمثيل، بل صار هو فى الكثير من الأحيان يساوى فن التمثيل.. العديد من الشخصيات الدرامية صارت وكأنها (الكتالوج) الذى ينفذه بدقة كل من جاء بعدها على الشاشة ليؤدى شخصيات مشابهة دراميا، فكانت هى المرجعية والمرشد. احتلت فى نهاية الخمسينيات مكانة استثنائية على الخريطة بعد جيل ذهبى من علاماته فاتن وماجدة وشادية وسميرة وهند، نادية ومعها رفيقة المشوار سعاد حسنى أثبتتا أن عنقود الذهب لا يتوقف عند حدود جيل، النجومية ليست قرارًا شخصيًا، بل هى منحة من السماء، على الإنسان الحفاظ عليها، لا تُكتب كلمة النهاية بالتوقف عن العمل، ولكن فقط يحدث ذلك عندما تذبل الومضة الداخلية، وهكذا غابت عقودًا عن الشاشة لكنّ الومضة بداخلها لم تفقد الإشعاع، فهى دائما فى حالة ألق. تتحمس للفكرة والهدف قبل الدور، مثلًا فى عز نجوميتها نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات قرأت بحدسها أن أهم فيلم مصرى وعربى - وهذا هو ما أكدته كل الدراسات والاستفتاءات اللاحقة - سيصبح هو (المومياء) لصديقها الرائع شادى عبدالسلام.. طبعًا هى لم تتحمس فقط لإدراكها أنه الأهم أو سيحتل هذه المكانة، فهى لا تقرأ الطالع، ولكنها فقط اقتنعت تمامًا بموهبة شادى، وسعة أفقه، ورحابة خياله، وعمق مخزونه الفكرى، وصدقه الشخصى والفنى وتفرده.. الفيلم كان مُعرّضًا للتوقف لأسباب متعلقة بالتسويق، فلا يوجد اسم نجم (سوبر ستار) يتصدر الأفيش، تحمست نادية للتجربة وكانت- فى هذا الزمن نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات- هى الاسم الأكثر جاذبية، وأدت نادية دورًا صامتًا فى مساحة زمنية لا تتعدى بضع دقائق، ليصبح واحدًا من أهم أدوارها، بل أهم فيلم عربى قدمته كل الشاشات، وذلك طبقًا لاستفتاء أجراه مهرجان (دبى) قبل نحو 7 سنوات. لها العديد من الذرى، فهل تنسى (لويزة) فى (الناصر صلاح الدين) ليوسف شاهين، و(فردوس) فى (أبى فوق الشجرة) لحسين كمال، و(العالمة زوبا) فى رائعة حسن الإمام (قصر الشوق). هل تتخيل (الأطلال) بدون صوت أم كلثوم أو (السمان والخريف) بدون نادية لطفى (ريرى)؟!. إنها (نادية ولطفى) فى نفس الوقت، كما كان يُطلق عليها الشاعر والكاتب الكبير كامل الشناوى، فهى تتمتع برقة الأنثى (نادية) وصلابة الرجال (لطفى)، وقبل وبعد كل ذلك الفيض الإنسانى الذى يسع العالم كله. أتيح لى أن ألتقى قبل أكثر من 30 عامًا فى العديد من البرامج والندوات والمهرجانات بنادية لطفى، ولم تكن كلها بهدف العمل الصحفى، بل كان آخر ما يعنينى هو أن أوثق الحديث أو الندوة فى حوار أو مقال أو تقرير، ولكن هى دائما الحاضرة.. أشرع فى إقامة ندوة لمواجهة الإرهاب أجد اسم نادية يتصدر المشهد.. أريد أن أعرف كيف يختار فى عالمنا العربى الفنان موقفه السياسى وهل ليس أمامه من اختيارات سوى أن يتبنى الموقف الرسمى للدولة، فلا أجد أمامى سوى نادية لطفى التى تقدم الإجابة، فهى لا تعرف سوى أن تنحاز لضميرها فتختار دائما الوطن، لتعلن ولاءها الدائم للحرية. أتذكر عندما تقرر تكريم سعاد حسنى فى مهرجان القاهرة قبل رحيل سعاد بعامين فقط، طلبت سعاد من صديقتها نادية أن تتسلم بالنيابة عنها وسام المهرجان، فهى الأقرب لها، بل قالت لى نادية إنها بين الحين والآخر كانت تقيم فى بيتها.
نادية لا تتحدث إلا عن الحقائق التى لامستها وليس مجرد حكايات مثيرة، فهى على عكس الكثيرين، قالت إنها لم تتعرض لمضايقات وتضييقات أمنية من أجهزة المخابرات فى مرحلة الستينيات، وعندما سألت نادية: هل حاولت الأجهزة فى الدولة استقطابها؟ أجابت: أبدا لم يحدث أن طُلب منى شىء، وأضافت: أنا أتحدث فقط عن نفسى، ومن حق الآخرين أن يقدموا رواية أخرى.
نادية لطفى فى كل مواقفها وأحاديثها هى الصدق يتحرك على قدمين، سواء أمام أو خلف الكاميرا، ولهذا كانت وستظل هى واحد من الاستثناءات القليلة جدا فى تاريخنا الفنى.. ومهما قلنا، نكتشف أن هناك لايزال الكثير الذى لم نقله.. وداعًا للفنانة الكبيرة التى لن تبرح أبدًا قلبى وعقلى ووجدانى.