أيام مع نجيب محفوظ (11)
راجعت جواز سفري ووجدت ختم مغادرة مطار القاهرة يوم 6 ديسمبر 1988.. ووصلنا إلى مطار استكهولم على متن طائرة الخطوط الهولندية KLM قادمين من أمستردام في وقت متأخر من ذلك اليوم.. وأظن كانت درجة الحرارة تحت الصفر.
وكان في استقبالنا في المطار السفير المصري عبدالرحمن مرعي والسيدة قرينته، والفنانة التشكيلية نازلي مدكور زوجة الأستاذ سلماوي، وتلقى الوفد اقتراحات من جهة السفير، حول الإقامة، وعرض علينا أما الإقامة في فندق أو بيت شباب، وكانت الإقامة على نفقتنا.. فاختار البعض الفندق مثلما فعل عبدالستار الطويلة ومفيد فوزي ومحمود المراغي وزوجته الصحفية نجاح عمر، واختارت الأغلبية بيت الشباب الذي وصلناه قبل منتصف الليل..
أما محمد سلماوي فهو رغم تنازله عن تذكرة السفر المقدمة له من مؤسسة نوبل، وكونه فضل المجيء معنا على الطائرة الخاصة، فلم يتنازل عن الإقامة في فندق "جراند أوتيل" على الواجهة البحرية أمام القصر الملكي ووسط المدينة القديمة في استوكهولم، وهو الفندق الرسمي لحملة جائزة نوبل.
وبعد ذلك زرته هناك لأنه أبلغ الزملاء بأن الأستاذ مكرم يبحث عني، فتوجهت إلى الفندق الذي ذكرني ما إن لمحت واجهته الخارجية واسمه، بـ"قصر العروبة" في مصر الجديدة، وكنا فيه قبل أيام قليلة في احتفال قلادة النيل.. فقد كان القصر في الأصل فندقا مهيبًا تحت اسم "جراند أوتيل"، قبل أن يصبح فندق "قصر هليوبوليس"، فـ"قصر الاتحادية" على زمن السادات، ولعبت المقارنة دورها، كما تذكرت "جراند أوتيل" في شارع فؤاد في وسط البلد..
أما النزل أو بيت شباب زنكن ( Zinken) فكان يقع في ضاحية "تانتو لودن" (Tanto Lunden) قريبًا من الغابات في منطقة خضراء كبيرة لم نر منها سوى الثلج الذي يغطيها، وكانت الليلة بخمسة وثلاثين دولارا أمريكيا، من دون طعام، وقد كان الاختيار الأفضل والأوفر لمعظمنا.. وفي الصباح الأول بدا لي الثلج في تلك الضاحية أقرب إلى ما نشاهده في الأفلام السينمائية، ما دعاني وأنا أغادر النزل في الصباح أقذف كرات الثلج على طفلين سويديين، وبادلاني القذف والضحكات.. ها أنا أرى الثلج لأول مرة في حياتي، وفي بلد هي سقف العالم، وها أنا ذا في أجواء الدول الاسكندنافية التي كثيرًا ما قرأنا عن سحرها وتقدمها وجمالها وثرائها..
وفيما بعد حاولت أن أشرح للأستاذ رجاء النقاش وجهة نظري، في تقدم السويد ، إذ أدركت وأيدني في ذلك، أن الثروة في السويد هي نتيجة التراكم وليس الهدم والانتقاص في كل شيء، وأن البلد القادر على أن يراكم منجزاته الاقتصادية والثقافية والحضارية سيكون ثريا ومتقدما.
ف السويد دولة الرفاهية في الشمال الأوروبي لم تكن كذلك، وكان الناس يموتون من البرد، إنما قررت أن تكون دولة محايدة منذ العام 1809 بعد هزيمتها في الحرب مع روسيا وفقدان فنلندا التي كانت تابعة لمملكة السويد لصالح روسيا الإمبراطورية، وحتى يومنا هذا ومرت حربان عالميتان وظلت السويد على حيادها، تتعاون وقت السلم ولا تتورط في الحرب، ووفرت للمتحاربين احتياجاتهم الأساسية، والصحافة حرة تماما، والتعليم مجاني تماما في المدارس والجامعات والمعاهد المهنية، ويتوزع السكان على كل المساحة الجغرافية للبلد.
كان كل اثنين في غرفة في بيت الشباب، وتوافقنا أو ارتحنا أنا وزميلي السيد النجار الذي أصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير " أخبار اليوم"، على أن نتشارك الغرفة.
ولم أنس يومًا اثنين من أعضاء الجمعية المصرية قدما لنا مساندة كبيرة منذ صباح اليوم الأول في استكهولم: سكرتير الجمعية حمدي حسن، الذي قدم لنا كل المساعدة، وكان نعم "ابن البلد" في الغربة، ومازال يعيش هناك حتى الآن، وقد تواصلت معه بعد ثورة يناير في زيارته للقاهرة، ثم أخيرا وسط جائحة كورونا، كما ساعدتني الدردشة معه في إنعاش ذاكرتي المزدحمة بأحداث واحد من أجمل مهامي الصحفية.. وكان حسن يدرس ويعمل هناك، من بين عشرات الدارسين المصريين، وحصل فيما بعد على الدكتوراة من جامعة استكهولم في العلوم السياسية حول الصراع الدولي سنة 1996، والتي صدرت في كتاب في لندن سنة 1999.
والمصري الثاني هو الدكتور إبراهيم جودة، أستاذ الكيمياء في كلية الزراعة جامعة أوبسالا شمالي استكهولم.
كان الدكتور حمدي والدكتور إبراهيم معنا في معظم أيام الأسبوع الحافل الذي أمضيناه في استوكهولم، وقد جندا نفسيهما لخدمة الوفد الإعلامي المصري الذي يغطي الجائزة.. وكانت الاستجابة لكل طلباتنا، وأسئلتنا حتى الساذجة منها، الترجمة لنا، الاطمئنان على أحوالنا، ونزول الأسواق والمطاعم معنا، وأخص بالذكر الدكتور حمدي الذي كان يعمل ويدرس وفرغ نفسه تقريبا للتواجد معنا طوال اليوم ولمدة أسبوع، وأذكر أننا تقاربنا كثيرا في الأفكار والمشاعر وتحاورنا طوال الوقت حول مصر وأيضا السويد .