موجز للحزن.. كوبا من «كولومبوس» إلى «كاسترو»

يصل إيجار قاعدة «جوانتانامو» الأمريكية فى كوبا إلى أربعة ملايين دولار سنوياً، وهو ما يعادل شراء شقة غرفتين وصالة فى برج ترامب بنيويورك. إنّه عقد مفتوح من دون مدّة زمنية محددة.

وعلى مدخل القاعدة توجد لافتة تشرح الموقف: «جمهورية كوبا.. أرض أمريكية حرّة».

كيف حدث هذا؟ ولماذا؟.. هنا موجز تاريخ كوبا الشاق.. كل الأيام مُرّة إلى حد كبير.حتى كبار الجغرافيين لا يمكنهم رسم خريطة دقيقة لجزر الكاريبى، إنها عديدة ومتناثرة، لكن جزيرة كوبا هى الأكبر والأسهل، وإلى يمينها -جهة الشرق- تنقسم جزيرة صغيرة إلى دولتين: الدومنيكان شرقاً، وهاييتى غرباً.تمتد كوبا على شكل مستطيل.. تعادل المسافة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب المسافة بين القاهرة وأسوان.

وأما المسافة من شواطئ كوبا إلى شواطئ فلوريدا الأمريكية فهى أقل من المسافة بين القاهرة والإسكندرية.

إن فلوريدا أقرب إلى العاصمة الكوبيّة هافانا من المدينة الكوبيّة الثانية سانتياجو التى تقع شرق الجزيرة. إلى هذا الحدّ تقترب كوبا من الولايات المتحدة الأمريكية.

ثمّة أعوام ثلاثة أساسية فى تاريخ كوبا: فى عام 1492 وصل كريستوفر كولومبوس، وفى عام 1898 وصل تيودور روزفلت، وفى عام 1959 وصل فيدل كاسترو.

إن الاحتلال الإسبانى، ثم الوجود الأمريكى، ثم الثورة الكوبية، تشكل موجز تاريخ الجزيرة.المحطة الأولى: فى عام 1492 وصل كريستوفر كولومبوس إلى كوبا، وبعده بدأ الاحتلال الإسبانى للجزيرة.

ومع الوقت جرت عملية تدمير تدريجية للسكان الأصليين الذين عاشوا هناك قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وحسب فيلم وثائقى أذاعته شبكة «نيتفليكس» فإن السكان الأصليين قد أُبيدوا بالكامل بعد مائة عام من وصول «كولومبوس».

كانت إسبانيا قد سيطرت على مساحات واسعة من العالم الجديد، بعد أن أخرجت إمبراطوريتين كبيرتين هما: الإنكا والآزتيك.. من التاريخ.

جلبت إسبانيا -الإمبراطورية الجديدة- ملايين العبيد من أفريقيا إلى العالم الجديد. يقول مؤرخون إنهم نقلوا 12٫5 مليون من العبيد، مات منهم 1٫5 مليون فى أثناء الرحلة، فيما وصل 11 مليوناً.. أقام منهم مليونان فى كوبا، ويشكل أحفادهم اليوم 60% من سكان كوبا.

أصبحت كوبا مركزاً للتبغ، وبعد ثورة العبيد فى هاييتى ضد الفرنسيين، انتقلت صناعة السكر من هاييتى إلى كوبا.فى عام 1860 تم انتخاب أبراهام لينكولن رئيساً لأمريكا، وهو الزعيم التاريخى الذى أنهى العبودية، ولما انفصل الجنوب اعتراضاً، حاربه وانتصر.أصبحت إسبانيا خائفة من ثورة العبيد عندها.

وهو ما حدث فعلاً بانضمام عدد كبير منهم إلى المناضل الكوبى الإسبانى «سيسبيداس» الذى حرّر عبيده، وحشدهم لمواجهة الإسبان. قُتِل زعيم الثورة وقتل معه 100 ألف كوبى. لكن الهدف الرئيسى تحقق.. فقد انتهت العبودية فى كوبا 1886.

بعد «سيسبيداس»، جاء «خوسيه مارتيه»، إنه مؤلف الأغنية الإسبانية الشهيرة «جوانتاناميرا».. وهو اسم فتاة فى قرية كوبية، وهى الأغنية التى مطلعها: «جوانتاناميرا.. واهيرا جوانتاناميرا - أنا رجل صادق.. قادم من أرض النخيل».

كان «مارتيه» مناضلاً رومانسياً، وقد قُتل فى معركة ضد الاحتلال الإسبانى عام 1895، لكنه أصبح رمزاً وطنياً.

قام الإسبان فى هذه المعارك بإرسال قائد دموى يُدعى «ويلر» قام بإخلاء الريف لمنع الثورة، ومن بين 400 ألف فلاح، قُتِل 170 ألفاً فى واحدة من أكبر المآسى الإنسانية.

وهو ما دعا بعض الكوبيين لإرسال صور من المأساة إلى الصحف الأمريكية.

وهنا بدأ طريق الولايات المتحدة إلى كوبا التى أرسلت سفينة عسكرية للمراقبة، فتحطمت فى حادث، وجرى اتهام إسبانيا، وبدأت الحرب عام 1898.

المحطة الثانية: انتصرت الولايات المتحدة على إسبانيا.

إن عام 1898 ليس عام هزيمة عسكرية لإسبانيا فحسب، بل كان عام نهاية الإمبراطورية الإسبانية. لقد جرى تحطيم الأسطول الإسبانى، وتم أسْر من تبقّى، وخرجت الإمبراطورية من التاريخ، ومنذ ذلك العام عادت إسبانيا دولةً عاديةً فى أوروبا.

هنا سطع اسم نجم جديد فى سماء السياسة العالمية، إنه قائد سلاح الفرسان فى هذه الحرب، ثم رئيس الولايات المتحدة عام 1901 تيودور روزفلت.

فى عهد روزفلت تم الحصول على قاعدة جوانتانامو، لتصبح أكبر قاعدة برية خارج أمريكا، وذلك للتحكم فى الكاريبى، حيث كانت حركة التجارة الدولية تتصاعد، بينما كانت قناة بنما يجرى حفرها.

وقد جاء اختيار خليج جوانتانامو شرق كوبا بسبب عمق المياه الشديد والذى يسمح برسو سفن عسكرية كبيرة.

فى العهد الأمريكى، جرى اعتبار كوبا مصنع سكر كبيراً لها، حيث تم فرض زراعة قصب السكر وبناء العديد من المصانع للإنتاج. يقول الكوبيون: «أعطينا أمريكا الحلوى، ولكننا لم نذق طعمها».

طلبت كوبا عمالة من الخارج، ومن المثير ذهاب بعض الإسبان ليعملوا فى كوبا، وكان من بينهم مزارع فقير هجرته خطيبته يُدعى آنخل كاسترو. أصبح «كاسترو» ثرياً فى كوبا، أنجب عدة أبناء، من بينهم فيدل كاسترو وشقيقه راؤول.

عمل فيدل كاسترو محامياً، وتزوج من ابنة رجل ثرى ونافذ، وأصبح والد زوجته وزير الداخلية فى عهد الرئيس «فولجنسيو باتيستا».

إن «باتيستا» هو الرئيس الذى قامت ثورة كاسترو عليه، حيث أصبح عام 1959 هو المحطة الثالثة: فيدل كاسترو رئيساً، ثم شقيقه الذى يصغره بخمس سنوات الرئيس الثانى من بعد أخيه.

كاد الرئيس فيدل كاسترو أن ينهى العالم بأكمله عام 1962 حيث استدعى السلاح النووى السوفيتى إلى أراضى كوبا.. ولولا بعض من الحكمة لدى الرئيس الأمريكى جون كينيدى والزعيم السوفيتى نيكيتا خروشوف، وكثير من الحظ لكان العالم الآن خاوياً على عروشه.

ناصب الرئيس فيدل أمريكا العداء، ثم جاء الرئيس «راؤول» لتنفتح نافذة جديدة باتجاه الولايات المتحدة.. ويلتقى الرئيس الكوبى بالرئيس باراك أوباما.

فى كوبا، أقام الأديب الأمريكى أرنست هيمنجواى، حيث كتب روايته الشهيرة «العجوز والبحر» والتى حازت جائزة نوبل عام 1954، وفيها أيضاً غنّى الفنان الأمريكى فرانك سيناترا فى افتتاح «مؤتمر المافيا العالمى» 1946.

لقد عاشت كوبا مئات السنين تحت الاحتلال الإسبانى، ثم عشرات السنين تحت النفوذ الأمريكى، ثم عشرات أخرى تحت الحكم الشيوعى. وهذا هو كل تاريخها عبر خمسمائة عام. سقط عدد كبير من القتلى والفقراء. لم يكترث أحدٌ لحياتهم ولا مماتهم. كانوا كلهم يحلمون، ثم راحوا، وراحت أحلامهم.

تشبه قصة تاريخ كوبا منذ كريستوفر كولومبوس، وحتى آل كاسترو، ما وصفه الفنان الشعبى المصرى حسن الأسمر عن كتاب حياته: «الفرح فيه سطرين، والباقى كله عذاب».

قد لا يكون ذلك تاريخ كوبا وحدها، ذلك أن وصف الأغنية المصرية ربما يسرى على معظم التاريخ الإنسانى: الشقاء.

إن كوبا دولة رائعة فيها قيادة مخلصة، والشعب الكوبى شعب ودود ونبيل، ولطالما امتدح زائروها المكان والإنسان. يستحق ذلك البلد الرائع أن يكون المستقبل أفضل من التاريخ. كوبا تستطيع.

(الوطن)

التعليقات