أيام مع نجيب محفوظ (15)

لم يكن مفاجئا لي ذكر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في كلمة الأستاذ نجيب محفوظ أمام الأكاديمية السويدية.. فقد درس محفوظ الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة (فؤاد الأول سابقا).. وتكشف حياة وإبداعات وآراء نجيب محفوظ العامة والسياسية عن احترام شديد للإنسان، وليس بعيدا من ذلك دراسته المبكرة للفلسفة، وربط ذلك بمبادئ الأخلاق والواجب..

وكانت دراسة نجيب محفوظ للفلسفة ـ على غير توجهات الشباب الجامعيين مطلع الثلاثينيات إلى الحقوق والطب واللغات ـ لها تأثير واسع على كتاباته وحياته، وزرعت فيه الزهد والتواضع والرضا، حتى أن أهمية "الحظ"، الذي تحدث عنه محفوظ كثيرًا، كان تصميمًا ولم يكن حظًا، كما يحلو له القول ليتفادى مظنة الغرور..

والإصرار المحفوظي كان تصميمًا وهدفًا ولم يكن حظًا كما يحلو له القول للإفلات من الثناء.. وفعل الأمر نفسه الكاتب الكبير والصديق إبراهيم أصلان.. فالحظ الذي تحدث عنه محفوظ كثيرًا من قبيل التواضع، كان السبيل إلى التملص نفسه عند أصلان، وعند كثير من المبدعين المصريين.. فقد سألت إبراهيم أصلان متى ينتهي الفرح النقدي بإبراهيم أصلان ليبدأ الشغب؟ ولماذا لا يوجد شغب مع كتاباتك؟. فقال لي: كنت من أكثر أبناء جيلي حظًا، وليس عندي تفسير، هو نوع من الحظ أرجو أن يستمر.

ولقد لاحظ كثيرون وكتبوا مثل محمد عفيفي وعبد الحميد يونس، عن أوجه شبه بين محفوظ وكانط ( 1724 ـ 1804) المولود في مدينة كونجسبرج بألمانيا، والذي كان أهل مدينته يضبطون ساعاتهم على حركته داخل شوارعها. وربما لم يتوسع الملاحظون في سرد المزيد من الروابط بين الفيلسوف الألماني الشهير وطالب فلسفة القاهرة، على الرغم من أن محفوظ ذكر اسمه في مقدمة قصيرة لكتاب "حول الأدب والفلسفة" إعداد الكاتب فتحي العشري (الدار المصرية اللبنانية الطبعة الأولى سنة 2003).

وكتب محفوظ عن الفلاسفة في مقدمة هذا الكتاب: و"أحببت البعض منهم حبًا شديدًا، مثل ديكارت، وكانط، وشوبنهور، وسارتر، وألبير كامي...".

فالفيلسوف الألماني كانط مثلاً لم يغادر مدينته أبدًا رغم كل المغريات، ومحفوظ لم يترك القاهرة أبدًا حتى لاستلام جائزة نوبل.. وسفرياته الخارجية كانت تحت ضغط معنوي إلى يوغوسلافيا واليمن، وتحت إلحاح طبي إلى بريطانيا.. أما سفرياته الداخلية فكانت لا تزيد على قضاء شهر في الصيف في الإسكندرية.. وقال الفيلسوف كانط لتلميذه وصديقه ياخمان الذي كان مديرا لمعهد التربية في كونجسبرج: "أنا لا أنسي أمي ما حييت، إنها غرست أولي بذور الخير في نفسي".. وقال نجيب محفوظ عن أمه لكاتب مذكراته وصديقه رجاء النقاش:" كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية".. "كانت تعشق سيدنا الحسين".. و"كانت دائمة التردد على المتحف المصري".. و"كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية".. و"الحقيقة أني تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصري لم يعرف التعصب وهذه هي روح الإسلام الحقيقية"..

وكتب محفوظ مقالا عن تأثير الفيلسوف كانط في تطور الفلسفة، بعنوان: "ماذا تعني الفلسفة؟" ونشره في "المجلة الجديدة" في فبراير 1935، أي وهو في سن الرابعة والعشرين.. ولم تكن شهورٌ قد مرت على تخرجه في الجامعة سنة 1934.. ثم كتب عنه مرة أخرى في مقال "السيكولوجية واتجاهاتها" في نفس المجلة في عدد مارس 1935: "وبالنقد عرف كانط القواعد اليقينية العامة وأخضع لها الظاهرات النفسية وظاهرات العلم الخارجي على السواء". ثم في عدد شهر مايو في مقال "الحواس والإدراك الحسي" عن "مهمة كانط الشاقة أن يجد طريقا للخلاص من هذا الشك، ورأى أنه لكي يمكن ذلك ينبغي أن نميز في المعرفة عنصرين: المادة والصورة.. ثم في مقال "الشعور" في عدد يونيو، ثم في عدد يوليو في مقال "نظريات العقل"..

وكما جاء في كتاب "مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علمًا" لإمانويل كانط، ترجمة الدكتورة نازلي إسماعيل حسين ومراجعة الدكتور عبد الرحمن بدوي (دار الكاتب العربي للطباعة والنشر القاهرة 1968)، فإن كانط فرض على نفسه نظامًا صارمًا في الحياة، ويتريض ساعة في الطريق الذي أطلق عليه "نزهة الفيلسوف"، وهي الساعة التي كان نجيب محفوظ حريصا عليها يوميًا..

ولم يكن هذا النظام الصارم في الحياة الذي فرضه كانط على نفسه من أجل مصلحة العمل فحسب بل أيضا من أجل رعاية صحته والتغلب على ضعف بنيته. ومحفوظ قال إنه نظم حياته من أجل الأدب والتغلب على الرمد الربيعي وفيما بعد مرض السكر ليتعايش معه.

ورفض كانط كل الوظائف العليا بما فيها الوزارة، حتى لا يترك مدينته وحتى يتفرغ للكتابة، ومحفوظ اكتفى بالوظيفة الحكومية ذات المواعيد المنضبطة، وتملص من كل العروض الصحفية ليتفرغ للأدب.. كما رفض منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة روزاليوسف حتى لا تضيعه الصحافة وتبعده عن الكتابة الأدبية.

ولم يتزوج كانط لأنه نذر حياته للعلم، بينما تزوج نجيب في سن الثالثة والأربعين بالكاد، ولم يكن ينوي الزواج أبدًا، حتى لا يعطله عن الكتابة الأدبية، وظل كانط أستاذا في الجامعة، كما ظل محفوظ موظفًا ملتزمًا حتى التقاعد.

وبعد بلوغ كانط الستين عين مديرًا لجامعة كونجسبرج فاحتفل به طلابها وأساتذتها احتفالا عظيما، كما احتفل "الأهرام" بانضمام محفوظ بعد التقاعد إلى كتابه الكبار الذين خصص لهم الدور السادس في مبنى الجريدة. ولكنه كان رفض لسنوات طويلة إغراءات رئيس تحرير الأهرام الأستاذ محمد حسنين هيكل بالانضمام إلى الأهرام سنة 1961، وأقام له احتفالاً لبلوغه الخمسين، دعا إليه أم كلثوم التي يعشقها محفوظ، وأطلق اسمها على كريمته الأولى، لكن محفوظ قاوم ورفض متعللا بالوظيفة الحكومية.. وانتظر هيكل عشر سنوات ليخرج محفوظ إلى المعاش فيتعاقد معه.

كما رفض عرضا من مصطفى أمين بقصتين في الشهر مقابل ضعف راتبه الحكومي، وذلك سنة 1944 كما ذكر جمال الغيطاني في كتاب "نجيب محفوظ يتذكر" (القاهرة ـ 1980)

وربما وصفه صديقه محمد عفيفي بـ"الرجل الساعة"، على منوال ما وصف به الشاعر هيني كانط بقوله: "لا أظن أن ساعة كاتدرائية كونجسبرج الكبيرة كانت تؤدي عملها بصورة أكثر انتظامًا ودقة من مواطنها كانط"..

التعليقات