كم أفتقدك يا أبى!
على خلاف ما أعتدت عليه، لم يعد فصل الربيع مقبلا بنور بهجته وروده، بل بات مرتبطا بذكرى تؤلم القلب وتدمع العين وتجدد الحزن على فراق أبى الحبيب الفقيد الراحل الدكتور مصطفى لبيب عبد الغني الذي وافته المنية فى الثامن والعشرين من شهر مارس عام 2016 بعد صراع طويل مع المرض اللعين. وعزائى الوحيد أن أبى – رحمة الله عليه – فارق دنيانا بجسده ليسبقنا إلى عالم الخلود، بينما ترك لى ميراثا ضخما من الفكر والعلم والثقافة والفلسفة والإبداع، ترك لنا ثروة طائلة من الأخلاق الحميدة والسيرة العطرة والأصدقاء العظماء والتلاميذ والمحبين الذين يغمروننى دائما بفيض مشاعرهم منذ رحيله حتى اليوم.
ورغم مرور 5 سنوات على رحيل أبى، إلا أنني لا زلت عاجزة عن وصف ما تركه هذا الفراق في نفسى وحياتى، وكأننى في سكرات الصدمة حتى اليوم، ولكن ما أتذكره جيدا هو ذلك الرجل العظيم الذي كان وسيظل نموذجا يصعب أن يقاس عليه كل رجال العالم.
كان أبي رجلا مصريا أصيلا من نبت هذه الأرض الطيبة، خرج من صعيد مصر باحثا عن العلم في شتى أنحاء العالم حتى صار أحد أبرز أساتذة الفلسفة الإسلامية وتاريخ العلوم فى الوطن العربى. لم يكن يعرف للاستسهال طريقا، فخاض الطريق الصعب وسخر حياته دفاعا عن قضية يؤمن بها وهي "أن تقدم البلاد يأتى عن طريق العلم".
سار أبى في درب العظماء، ونهل من نهل الأنبياء، وغاص في بحر كبار الفلاسفة فكتب عن صورة الكون عند الإمام علي بن أبي طالب ومنهج البحث عند جابر بن حيان وفلسفة ابن رشد وأبي بكر الرازي وابن خلدون ورفاعة الطهطاوى، وامتد بثقافته وفكره للفلاسفة الأجانب فترجم العديد من الأعمال الفلسفية وتعرض لأعمال أخرى بالنقد والتحليل وكان من أول الشخصيات التى حصلت على جائزة رفاعة الطهطاوى التى منحها المركز القومي للترجمة عام 2010 لأفضل ترجمة عن لغة أصلية إلى اللغة العربية عن ترجمته لكتاب "فلسفة المتكلمين".
ورغم العلوم العظيمة التى درسها أبى وحرص على تدريسها وتدوينها من أكثر من 70 كتابا ومئات الدراسات والأبحاث والمقالات، إلا أن أهم الدروس التي تعلمتها على يديه هو حب الوطن. لقد كان عاشقا لتراب
هذا الوطن ومؤمنا بقدسيته وبقوة أبناءه المحفوظين بقدرة إلهية جعلت هذا الوطن مقبرة لكل من يحاول المساس بأمنه واستقرار شعبه.
تعلمت من أبي الإخلاص، فكانت أبرز سماته الإخلاص في كل عمل يقوم به، كما كان عميق الفكر، غزير المعرفة، مقتصدا في فرحه، ومعتدلا في الحزن، يرتفع عن الصغائر، زاهدا في كل ما يتصارع عليه الآخرون، كريما بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بشوشا ذا إبتسامة ساحرة، متواضعا ومحبا للحياة وللإنسانية ولا ينطق لسانه إلا بالصدق، كما كان حقا سند لمن لا سند له، ويظل دائما حاضرا فى وعى ما حييت.
ورغم أن حياته وهبها للعلم، إلا أننى أتذكر جيدا عند عودته مساءا إلى المنزل كانت دائما مسؤوليته إعداد وجبة العشاء حتى في أصعب أوقات التعب، حيث كان يعتبرها وجبة الحب التي يقدمها لأسرته لنجتمع نحن الخمسة أمى وأبى وأخوتى على العشاء كل ليلة.
لقد زرع فينا أبى منذ أن كنا صغار حب مجالسة أصحاب الفكر والمثقفين، فحينما كنت طفلة صغيرة أتذكر جيدا جلسات الكبار العظماء مثل دكتور زكى نجيب محمود ودكتور عثمان أمين بفيلته بميدان هيئة التدريس بالدقي والدكتورة أميرة مطر في شارع شهاب
بالمهندسين وآخرين .. كنت أنصت للأحاديث .. أتذكر الحديث عن الشيخ محمد عبده ومشروعه الفكرى الذى حرك المياه الراكدة والمقارنة العميقة بين ما كتب الإمام وما قاله الدكتور طه حسين. لا أدّعى أنى كنت أفهم كل شىء ولكن إنطباعى أنهم كبار عظماء يعجبنى ما يتحدثون عنه. كنت أشعر بسعادة وفخر شديدين لتواجدى في هذا المكان، فألزمت نفسى أن أظهر بشىء لائق لأشرف أبى وأكون دوما عند حسن ظنه.
كان يعرف أقدار الناس ويحب بوجه خاص أساتذته، ويميز العلماء والمفكرين الحقيقيين من بين أشباههم ويزن كل شىء بمقداره.
وإن كان حرص الأباء على مجالسة الكبار هو درس حياتى تعلمته من أبى، فإن الدرس الأهم هو حرصه على مدح أبناءه والثناء عليهم ولكن بالحق، وكان دائما ما يقول: "حافظوا على شعور أولادكم كما دوما يفعلون".
ومن أعظم صفاته كانت الثقة بالله، فرغم مرضه الشديد كان دائما يشعر بالرضا والطمأنينة والاستسلام لإرادة الله.
عن(اخبار اليوم)