أيام نجيب محفوظ

مَن مِنا لم يكن له مُلهِمًا، لا سيما في سنوات التكوين، سنوات الشباب. ويرى البعض أن تراجع الحالة الثقافية يعود بعضه إلى غياب النموذج المُلهِم، هذا النموذج الذي يحفز طاقات الإبداع لدى الشباب، ويدفعهم إلى طريق الأمل، طريق المستقبل.

في دراسته الجديدة "أعوام نجيب محفوظ" يتتبع محمد شعير مدى تأثر الشاب نجيب محفوظ بمُلهِمه "طه حسين"، وكيف كتب محفوظ في بداية شبابه مذكرات طفولته متأثرًا بطه حسين وعمله الفذ "الأيام. ومن ناحية أخرى يعتبر هذا العمل استكمالاً للمشروع الفكري الذي بدأه شعير في السنوات الأخيرة عن نجيب محفوظ؛ حيث أخرج لنا من قبل "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة"، وها هو يقدم لنا اليوم مذكرات الطفل نجيب محفوظ، وجميل أن يكون للباحث مشروعًا فكريًا يحرص على استكماله بدأب، وهذا ما أراه في شعير.

في هذه المرة يكشف شعير النقاب عن هذه المذكرات "المسروقة" أو المفقودة! إذ يتتبع ما ورد على لسان محفوظ في بعض الأحاديث أنه كتب في شبابه مذكرات لطفولته على غرار أيام طه حسين، ولكن هذه المذكرات فُقِدَت أو سُرِقَت، كما لم يكن محفوظ نفسه متحمسًا لنشر هذه المذكرات لأنها كانت بمثابة محاولاته الأولى في الكتابة، مع أن هذه "المحاولات" في الحقيقة غاية في الأهمية بالنسبة للناقد لدراسة تطور الكاتب، وهذا ما يشير إليه شعير: "كانت المفاجأة الكبرى، أو جوهرة الكنز الكبرى التي استغرقتني تمامًا، مخطوطات مذكرات طفولته، الأعوام التي أشار إليها كثيرًا، وتظل ذات قيمة فنية وتاريخية على الرغم من أنه لم يسع إلى نشرها باعتبارها تمرينات على الكتابة".

يرصد شعير في كتابه رحلة تتبعه للمذكرات منذ سرقتها أو فقدانها من منزل محفوظ في العباسية، حتى خروجها من مصر إلى إحدى مكتبات الكتب النادرة في نيويورك، ثم عرضها في مزاد في لندن، قبل أن تستقر أخيرًا عند أحد هواة جمع المخطوطات في إحدى الدول العربية، حيث استطاع شعير الحصول على صورة ضوئية منها.

ومن النقاط الهامة في هذا الكتاب أن شعير يتناول مذكرات طفولة محفوظ في سياق عصرها، فالنص هنا هو ابن السياق التاريخي، كما يبرز أهمية المذكرات، وأيضًا تطور فن الرواية كتعبير عن ثورة الفرد والذات والتي غيرت من شكل وتطور الطبقة الوسطى في أوربا، وانتقل ذلك إلى الأدب العربي لا سيما مع مطلع القرن العشرين، وعشق الأنا التي هي من ضرورات الإبداع، وبالتالي أنا أكتب فأنا موجود، ويظهر ذلك بشدة في أيام طه حسين وأعوام محفوظ.

ولا يكتفي شعير بنشر مذكرات الطفل محفوظ، لكنه يقوم بدراسة هامة لها، ليكتشف كيف "سيصوغ محفوظ بعد اكتمال الوعي، بعضًا من حكايات أعوامه في كثير من أعماله الروائية والقصصية، فنجد تطابقًا بين ما يكتبه في الأعوام عن نفسه وبين الراوي في حكايات حارتنا، وبينه وبين الطفل كمال عبد الجواد في الثلاثية".

ما أجمل أن يكون لك مشروعًا فكريًا، والأهم هو استكمال هذا المشروع، ونحن هنا أمام مشروع مهم لإعادة اكتشاف محفوظ وأدبه.

(عن الدستور)

التعليقات