حين قال أوباما "السلامُ عليكم"... وبدأت الحروب العربية

في عام 2016، وبينما أوشك المصلّون في أحد مساجد القاهرة على الانتهاء من صلاة الجمعة، قام خطيب المسجد بالدعاء للرئيس الأميركي باراك أوباما. كان ذلك الدعاء في ختام الخطبة مباغتاً للجميع. كان بعض المصلّين أقلّ تركيزاً، فراحوا يردِّدون "آمين" قبل أن يدركوا لِمَن كان ذلك الدعاء.. فيما انقسم الآخرون ما بين مؤيّد ومعارض.

لمّا سُئل الخطيب: لماذا دعوت لرئيس أجنبي غير مسلم في خطبة الجمعة، قال الخطيب: إنّ الإسلام لا ينهى عن ذلك، وقد دعا المسلمون للنجاشي ملك الحبشة، ولم يكن مسلماً، والرئيس أوباما ليس مسلماً، ولكنّه يعمل لمصلحة الإسلام، وينوي الخير للمسلمين.

كان النجاشي مسلماً، وصلّى عليه الرسول (صلى الله عليه وسلّم) صلاة الغائب، وقد استدلّ الشيخ عبد الله بن بيّه بوجود دولة النجاشي المسلمة المستقلّة في عهد الرسول، من دون الاندماج في دولة النبوّة، على عدم حتميّة الوحدة السياسية للمسلمين في خلافة واحدة.. وعلى شرعيّة "الدولة الوطنية" في الإسلام.

لم تكن معلومات الخطيب دقيقة بالقدر الكافي، ولكنّه كان واثقاً من أنّ الرئيس أوباما كان ينوي الخير للمسلمين، ويستحقّ الدعاء على المنابر.

في عام 2019 قام مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي في إدارة الرئيس ترامب بتوجيه خطاب للعالم الإسلامي، من الجامعة الأميركية في القاهرة. وعلى الرغم من التغطية الإعلامية الواسعة للخطاب، فإنّ أحداً لم يسمع به خارج أسوار الجامعة. في حين كان خطاب الرئيس باراك أوباما، الذي ألقاه قبل عشر سنوات في جامعة القاهرة، واحداً من أكثر النصوص الأميركية المتعلّقة بالإسلام، أهميةً وحضوراً، ولا يزال ذلك الخطاب "التاريخي" يمثِّل حدثاً بارزاً حتى اليوم.

كان من حظّي أنّي تلقّيتُ دعوةً من الرئاسة المصرية، جرى توقيعها باسم جامعة القاهرة، لحضور خطاب الرئيس أوباما في ذلك الصيف من عام 2009. وقد كانت الدعوة فرصةً ثمينةً لحضور تلك اللحظة الفارقة، والاطّلاع في قاعة الجامعة على ما لن تنشره الصحف.

خلوّ شوارع القاهرة

غادرتُ منزلي وسط القاهرة قبل الموعد بكثير، فعلى الرغم من أنّ المسافة من منزلي لا تبعد كثيراً عن الجامعة، فإنّ خشية الإجراءات والزحام استدعتْ المغادرة قبل الخطاب بوقتٍ كافٍ.

كانت أولى مفاجآت ذلك اليوم هي خلوّ الشوارع تماماً من المارّة، في مشهد يشبه ما جاء في الفيلم المصري "طبّاخ الرئيس"، حين أخلتْ الحكومة الشوارع في أثناء جولة الرئيس للتعرّف على حياة المواطنين، حتى لا يطّلِع على شيء.

لقد تصوّرتُ أنّ الطريق الذي سلكتُهُ ربّما كان له وضعٌ خاصٌ، فاستدعى ذلك الإخلاء. لكنّ الرئيس أوباما أشار في مذكّراته "الأرض الموعودة" إلى أنّ جميع شوارع القاهرة كانت خالية، وذلك من المطار إلى الجامعة فالأهرامات فمسجد السلطان حسن، ثمّ قال: "كان الفارق مدهشاً بين خلوّ شوارع القاهرة، وبين اكتظاظ قاعة الجامعة بثلاثة آلاف شخص".

حين وصلتُ إلى مدخل الجامعة، حيث درستُ العلوم السياسية قبل سنوات، كانت الشرطة المصرية في حالة ارتياح أكثر ممّا توقّعت. كان أغلب رجال الشرطة في حالة ثقة وهدوء، وقد أظهروا للحضور أن لا شيء استثنائيّاً، على الرغم من الإحكام الأمنيّ الشديد، والترتيبات المشدّدة عبْر أربع بوّابات أمنيّة.

ما إنْ دخلنا القاعة حتى انقطعت شبكة الاتصالات عن الهواتف. لكنّ المسؤولين الأمنيّين سمحوا لنا بالخروج للتحدّث، ثمّ العودة إلى القاعة، من دون أيّة شروط. لم يكن هناك عنصر أمن أميركي واحد عند مدخل الجامعة أو مدخل قاعة الاحتفالات الكبرى. وقد نجح الأمن المصري في إظهار خبرة مذهلة في التأمين من دون ضجيج.

وصلتُ إلى مقعدي وسط القاعة، حيث أمكنني رؤية المشهد بأكمله. كان أوّل من التقيتُ الفنّان الكبير الأستاذ عادل إمام، الذي أطلق العديد من النكات "الجادّة" بشأن الخطاب والحضور معاً. كان "الزعيم" يقظاً وحاضراً في ذلك الصباح، وكان مضمون كلماته الساخرة: "لا شيء جديداً هنا اليوم، لكنّ الاحتفال بذاته هو الجديد، الحدث هو الحفل.. لا ما سيُقال في الحفل". تزاحم عدد من الحضور لالتقاط الصور مع الأستاذ عادل إمام، وكان في تلك الأثناء لا يكفّ عن السخرية.

فنّانون ومثقّفون

على مقربة من "الزعيم" كان يجلس الفنان شريف منير، وكان "شريف" أكثر تحمّساً لذلك الحفل، وقال لي: نحن إزاء حدث تاريخي. ولقد ظهرت حماسة الفنان في قيامه في أثناء الخطاب بمقاطعة الرئيس باراك أوباما قائلاً بالإنجليزية "بنحبك يا أوباما".

بعد قليل تقدّم أحد الحضور، وقال لي: لقد شاهدتك في برنامجك "الطبعة الأولى" تهاجم الدكتور سعد الدين إبراهيم، وتطعن في علمه، ووطنيّته، وأودُّ أن أقول لك: الدكتور سعد الدين عالم اجتماع كبير، ووطنيّتُه غير قابلة للتشكيك.. ثمّ أردف قائلاً: أنا شقيق الدكتور سعد.

على مقربة من مقعدي كانت تجلس الفنانة ليلى علوي، التي بادرتْ إلى السؤال: ماذا تظنّ أنّه سيقول لنا؟ لقد سألني أصدقائي وقلت لهم: سأذهب وأرى. قلت لها: هذه إجابة جيّدة. لقد تمّ الجزء الأول، وها نحن هنا. بقي الجزء الثاني.. وسنرى بعد قليل.

كانت في عالم السياسة الأميركية نجمةٌ جديدةٌ هي السيدة "داليا مجاهد"، عضو المجلس الاستشاري للشؤون الدينية في البيت الأبيض. تحدّثنا قليلاً، ثمّ فاجأتني بالقول: "إنّني من حيّ السيّدة زينب، وجدّتي معجبة بك، وتقول إنّك شخص مشهور". قلت لها: "لست مشهوراً كما تتصوّر جدّتك، لكن في كل الأحوال، أنا ألعب في الدوري المحلّيّ، وهنا كأس العالم". قامت "داليا مجاهد" بمصافحة وفد جماعة الإخوان، وكان هذا مفهوماً، ثمّ راحت وصافحت جمال مبارك، وكان ذلك مفهوماً.. أيضاً.

انتظرنا ثلاث ساعات في قاعة الاحتفالات حتى بدأ الخطاب، وكان ذلك وقتاً كافياً لكي يتعرّف كثير من الحضور بعضهم على البعض الآخر. فيما كان طلاب جامعة القاهرة، وطلاب جامعة الأزهر من المصريين ومن الدارسين الأجانب، يملأون الطوابق العليا من القاعة.

كان رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف، ومدير جهاز الاستخبارات المصرية الأسبق ونائب الرئيس مبارك لاحقاً اللواء عمر سليمان، والإمام الأكبر الدكتور محمد سيّد طنطاوي شيخ الأزهر، والدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية، هم أبرز الحضور من المؤسسة الرسمية المصرية.

الأميركيون، الذين تسلّموا منصّة القاعة، مجاملين جدّاً حين وضعوا موسيقى جميلة في ساعات الانتظار، كان من بينها موسيقى "مسلسل أمّ كلثوم"، وموسيقى "مسلسل ضمير أبلة حكمت" الذي قامت ببطولته الفنانة الكبيرة فاتن حمامة، وهكذا كانت كوكب الشرق وسيدة الشاشة أبرز الحضور في خطاب الرئيس الأميركي.

قبل قليل من دخول الرئيس أوباما، أطلّت علينا السيدة هيلاري كلينتون ولوّحت بيدها للحضور الذين بادلوها التحيّة بأحسن منها. ثمّ كان ظهور الرئيس باراك أوباما الذي صفّق له الحضور تصفيقاً ربّما يكون من أكبر معدّلات التصفيق في مجمل خطاباته على مرّ رئاسته.

"السلام عليكم" وذوبان القلوب

كانت أولى كلمات الرئيس باراك أوباما هي تحية الحضور باللغة العربية: "السلام عليكم". لقد فتحت هذه الجملة قلوب الحضور جميعاً، وحتى مَن كانوا متحفّظين على الرئيس الأميركي فقد ألانتْ تحيّة الإسلام العربية قلوبهم.

ثمّ كانت الآيات القرآنية الثلاث التي تجاوزت تليين القلوب إلى إذابة الأفئدة، عندما تلا الرئيس أوباما قول الله تعالى في سورة الأحزاب، الآية 70: "اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً"، وقوله تعالى في سورة الحجرات، الآية 13: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، وقوله تعالى في سورة المائدة، الآية 32: "مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً".

لقد أكمل الرئيس أوباما ذلك الخطاب "التاريخي" بزيارته إلى مسجد السلطان حسن، خالعاً حذاءه في مدخل المسجد، تصحبه السيدة هيلاري كلينتون، وقد وضعت غطاءً على الرأس، ثمّ كرّر تصريحه لوسائل الإعلام: "كانت مهمّتي أمام العالم الإسلامي هي توضيح أنّ أميركا ليست عدوّاً للإسلام".

مضَى وقت قصير على الخطاب التاريخي للرئيس الأميركي في جامعة القاهرة، ثمّ بدأ انهيار العالم العربي وارتباك العالم الإسلامي. نجح المتطرّفون المدعومون خارجياً في سرقة لحظة الحداثة والتغيير، ليشرعوا في محاولة بناء أمّة تافهةٍ، لا تملك سوى السلاسل البشرية، ومسيرات القطيع. لم يعد الإنسان في ذلك المشروع سوى رقم في التظاهرات، وناشط في تحطيم المؤسسات وترويع أصحاب العقل والرأي.

أصابَ المتطرّفون الأمّة بالوهن، فتداعتْ عليها الأمم الأخرى من كلّ صوب. كان العالم المتقدّم يتحدّث عن معدّلات النموّ، وكان العالم الإسلامي يتحدّث عن معدّلات الدم، وكانت المسافة بين الاقتصاد والموت هي المسافة بين الآخرين وبيننا.

أوباما سبب الانهيار؟

يرى البعض أنّ الرئيس أوباما وإدارته كانوا وراء ذلك الانهيار الذي أصاب العالم العربي. لكنّ الأمر لا يمكن اختزاله في ذلك القول من دون تمحيص. فلقد أيّد أوباما الرئيس مبارك في الأيام الأولى، وأيّدته هيلاري كلينتون، وكان رأي نائب الرئيس وقتذاك جو بايدن أنّ مبارك يجب أن يبقى، وأنّه لا يمكن تسمية ما جرى بأنّه "ربيع عربي". ولولا فشل الإدارة المصرية حينذاك، لَما تحوّل الرهان منها إلى غيرها.

لا يمكن إعفاء الخارج من دعم الجماعات المتطرّفة في كلّ مكان، واستهداف المسلمين أمّةً وحضارةً، شعوباً وأنظمةً، ولا يمكن إغفال أنّ بعض الخارج يريد تمزيق الدولة الوطنية في العالم الإسلامي، لتتزاحم نماذج كرتونية من "النانو- دولة". ولئن كنّا لا نملك الخارج، فإنّنا نملك أنفسنا، ولن يكون الخروج الآمن من ظلمات المتطرّفين سوى بإرادتنا ورؤيتنا.. ليس لنا إلاّ نحن.

سيظلّ الآخرون يدعمون، ولن يوقفهم كشف الحقائق أو توضيح الأمور. والرهان على أخلاقيّات القوى الكبرى هو رهان على فيزياء الفراغ.

في المعارك الكبرى، الأغبياء والعملاء سواء.

*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور..

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

التعليقات