الكتابة أرزاق

زارنى أربعة من الكتاب المجيدين الذين حققوا فى الكتابة ما يدهش الباحثين والقراء فى كل مكان. الروائى والباحث والمترجم مصطفى عبيد، والروائى أحمد القرملاوي، والروائى علاء فرغلي، والدكتور أسامة عبد الرءوف الشاذلى أستاذ جراحة العظام الذى فاجأنا برواية ملحمية مدهشة هي «أوراق شمعون المصري» عن الخروج الكبير لبنى إسرائيل من مصر، كأول عمل إبداعى له يتضح لأى قارئ كم الوقت الذى أنفقه ليعطى العمل وجهه الملحمى . كانت الجلسة مدهشة وعلى غير ما أتوقع أنا المتعب، وجدت نفسى أتحدث كأنى شاب لا أكاد أتوقف عن الحديث.

بعدت كثيرا عن منطقة المرض والألم، وحكيت عن كثير من المبهج فى حياتى الأدبية. وقفت كثيرا عند من قابلتهم وضاعوا فى الحياة، وكانوا الأرض الخصبة لكثير من شخصيات رواياتى .

بشر مرّوا عليَّ أيام الصبا وأول الشباب فى الإسكندرية، حين كان الاتساع فى الأرض والفضاء يجعلك ترى الغريب القادم من بعيد، أو حتى المجنون، كأنه وحده خلقه الله الآن وأنزله من السماء.

كيف كانوا بشرا سعداء رغم حياتهم البسيطة يفعلون كل ما هو غير عادي، ويضحكون كأنهم فعلوا الحقيقى والمطلوب.

لن أستطيع أن أعطى أمثلة فما أكثرهم، وما أكثر ما ألهمونى به حين كبرت وأخذتنى الموهبة إلى الكتابة، فوجدتهم جميعا محبوسين فى اللاشعور، ينتظرون يوم خروجهم فى رواية أو قصة، فذهبت أنا إليهم.

انتهت الجلسة بالضحك الغزير وبعدها وجدت نفسى أفكر، هل لو لم أكن قابلت هؤلاء الناس كنت سأكتب رواياتي؟ مؤكد كنت سأكتبها لكن كان الفكر فيها سيساعد أكثر من التجربة، وأنا أرى أن التجربة تعطى الفكر صدقا. الفكر فى الطرقات لكن التجارب صدف.

وحين يكون أصحاب التجربة ممن لا يمتلكون فكرا، يمكن أن تأخذك إلى المعانى الفلسفية العميقة التى لا يعرفونها وستعرفها أنت فيما بعد. هكذا فالكتابة أرزاق تأتى فيها الخبرات للموعودين دون بحث أو عناء.

حين يتكرر تأخرك بالليل وتجد امرأة تمشى وحيدة فى الشارع تصرخ قائلة يارب وتظل مسرعة لا تتوقف، فمهما فكرت أن لديها مشكلة ما، فاتساع الليل والشارع الخالى يجعلك ترى بداية الخلق، فلا أحد إلا هى والله وأنت شاهد عابر.

وحين يترك زميلك فى المدرسة الامتحان ويسلم ورقة الإجابة خالية قائلا «إيه لازمة يسألونا فى حاجة درسوها لينا؟» يبدو أمام الجميع فاشلا، لكنك تدرك فيما بعد أنه كان غير متوافق مع المجتمع، ومن ثم تأتى أخباره وقد صار أحد الخارجين عن القانون الكبار.

يلخص كل هؤلاء حكاية قديمة فى الإسكندرية عن التاجر اليونانى «مخالي» الذى ملّ التجارة رغم ما يكسب، فباع ما يملك ووضعه فى البنك بحيث يكفيه عددا كبيرا من السنوات التى تصور أنه لن يعيش أكثر منها، لكن شاء الله أن يعيش أكثر وانتهت نقوده فى البنك، فصار يدخل البارات ليشرب الخمر قائلا للجارسون «معلش خبيبى ماعييش فلوس علشان مخالى غلط فى الحساب».

لخص مخالى مسيرة الإنسان، وتجلى مخالى فى الآلاف مثله وإن بطرق أخرى. الحظ يمكن أن يضعهم فى طريق الكاتب، ومن هنا تأتى الأرزاق فى الكتابة.

يمكن للكاتب ان يصنع شخصية من عدم، لكن الأجمل هو أن تصنعه الشخصيات، فتكبر فى روحه وتأخذه الى ضفاف العبث أو اللامعقول بتجلياته فى الاستغناء أو الخروج على المألوف، لامتلاك ما يبدو بعيدا أو حتى الاستسلام، ويصبح للعدم وجود.

لأولئك الذين لم يكونوا يعرفون أنى سأكون كاتبا كما لم أكن أنا أعرف، أدين بكل ما كتبت، وأقول لهم كيف يقولون إنكم اختفيتم من الحياة؟

"عن أخبار اليوم"

التعليقات