ثلاثة جنيهات وستون قرشا

أستاذ عبد الوهاب مساء الخير ياافندم .. # مساء النور .. = أنا فلان الفلانى بكلم حضرتك بخصوص
برنامج الأستاذ طارق حبيب .. # أهلا وسهلا .. = إحنا جاهزين على التصوير .. تحب حضرتك نبدأ
إمتى ؟ .. # يوم الأحد مناسب .. = تمام .. وبخصوص المبلغ المتفق عليه .. المائة ألف جنيه جاهزين ..
# لا لا مائة ألف دولار .. والحديث نصف ساعة فقط .. = إزاى ياافندم الاتفاق كان على مائة ألف جنيه .. رد .. أيوه لكن مش إنتوا حتوزعوا الحديث للتليفزيونات العربية .. يبقى لازم يكون بالدولار
.. انتابتى دهشة عظيمة .. الأستاذ محمد عبد الوهاب موسيقار الأجيال بيساومنى من أجل صفقة أربح !! ياإلهى .. كيف ذلك ؟ المهم .. محادثتى تلك غيرت فكرتى الرومانسية عن الفنانين والمبدعين بأنهم كائنات
شفافة لاتأكل ولاتشرب .. نفس المشهد تكرر مع الشاعر أحمد فؤاد نجم .. طلب مبلغا كبيرا نظير ظهوره
على قناة النيل الثقافية .. و صمم على ذلك .. فبذلت جهدا كبيرا فى إقناع المسئولين فى ماسبيرو وأخيرا
.. وافقوا .. والحقيقة أن أغلب مشاهير الكتاب كانوا يقولون لى .. إن أفكارهم لها ثمن وهم عندما ينشرونها
فى صحافة الخليج يتقاضون أجورهم بالعملة الصعبة .. وأحدهم قال لى يعنى أنت عندما تحضر
النجار أو السباك لعمل شغلانة فى بيتك .. هل ستقول له شكرا ولاتدفع له أجرا؟ .. تعلمت من هذه المواقف
أن الإنتاج الفكرى فى بلادنا رغم أنه لايقدر بمال .. إلا أن أصحابه لا يكافئون بما يستحقون .. وبعضهم
يضطر إلى الدخول فى مفاوضات من أجل الحصول على حقوقه المادية .. إن حال المثقفين لا يختلف
كثيرا عن حال صناعة الثقافة فى مصر .. نحن نحتاج إلى وقفة وإلى دعم حقيقى وإلى أموال وميزانيات محترمة .. الدكتورة إيناس عبد الدايم كانت قد أعلنت أن ميزانية وزارة الثقافة ثلاثة مليارات وستمائة مليون جنيه .. وقد صرح بعض المسئولين أن تسعين فى المائة من هذا المبلغ يذهب لبند الأجور ,, ولا يتبقى إلا عشرة فى المائة لصناعة المحتوى الثقافى .. عندما تأملت هذه المسألة .. سألت نفسى .. كم يكون نصيب المواطن من ميزانية الثقافة ؟.. حسبتها .. وجدته .. ثلاثة جنيهات وستون قرشا
.. ثلاثة جنيهات وستون قرشا يجب أن نوفر له بها فنون السينما والمسرح والأوبرا والفن التشكيلى
والكتب والموسيقى الراقية وخلافه .. هل هذا معقول ؟ وهل يتناسب مع تطلعاتنا إلى نهضة ثقافية طموحة ؟..
إن مايحدث الآن من أنشطة وفعاليات ثقافية إنما ينجح فقط بفضل جهود الدفع الذاتى وبفضل حماس الرواد الثقافيين وبفضل مبادرات المبدعين أنفسهم وتفانيهم مع كافة المؤسسات .. سواء على مستوى المجلس الأعلى للثقافة الذى يسعى إلى توفير مناخ محفز لصفوة المفكرين والمبدعين لمواصلة العصف الذهنى أو فى مهرجانات السينما والمسرح والأوبرا التى تسعى إلى إتاحة الفنون الراقية أو فى معرض الكتاب الذى يساهم فى نشر الفكر المستنير .. كيف يتم كل ذلك دون توفير مخصصات مناسبة؟ .. المملكة العربية السعودية رصدت مؤخرا أربعة وستين مليار دولار لميزانية هيئة الترفيه فقط .. طبعا هى دولة بترولية غنية ولديها إمكانيات كبيرة .. ولكننا برغم ظروفنا الصعبة يمكننا مضاعفة الميزانيات على الأقل .. هذا إذا كنا نريد تجديد الخطاب الثقافى ومحاربة التطرف والعنف وإنقاذ الأجيال الجديدة من مغبة التصحر الثقافى والتسطيح .. فى المقابل يجب تشجيع المبدعين على التفكير فى إدارة مواهبهم بطريقة إقتصادية .. أذكر أننى كنت فى “مهرجان أفنيون” وهو أشهر مهرجان مسرحى عالمى ينعقد لمدة شهر فى مدينة أفنيون بفرنسا .. وشاهدت هناك عروضا
تجريبية مدهشة .. منها عرض غرائبى لمدة خمسين دقيقة .. ليس فيه كلمة واحدة .. المسرح عبارة عن
ستارة مرتفعة إلى مستوى الركبة .. وأحداث المسرحية عبارة عن أرجل نسائية تتحرك بالكعب العالى
وبالكوتشى وبالصنادل .. وأرجل أخرى رجالية تتحرك بتشكيلة من الأحذية الرياضية والكلاسيكية
.. كل ذلك على إيقاعات مختلفة راقصة أحيانا ومهرولة أحيانا أخرى ,, والغريب أنك تفهم الأحداث
مابين التقارب والمغازلة وبين الهجران والفرار وبين الإقتتال والمراقصة .. المهم حاولت أن أصور جانبا من المسرحية .. لكن المخرج رفض وأخبرنى أننا لابد أن ندفع لهم رسوم تصوير .. فهم مجموعة من الشباب أسسوا فرقة مسرحية يتعايشون منها ويحققون دخولا جيدة جدا .. ليتنا نهتم بتشجيع المبدعين لإنشاء شركات
إبداعية يتكسبون منها .. عبد الوهاب وعبد الحليم كانا سباقين جدا فى هذا الجانب الإقتصادى وأنشآ شركة
صوت الفن .. لابد إذن من رؤية جديدة على مستوى المبدعين المنفردين و على مستوى الدولة .. فنحن فى حاجة ماسة إلى التمكين المادى .. لن أقارن ميزانيتنا بميزانية وزارة الثقافة والرياضة فى إسرائيل
ولا بميزانيات الثقافة فى أوربا الشرقية أو فى أمريكا اللاتينية مثلا .. أن الأوان أن نعيد النظر أيضا
فى ظاهرة المثقف “البلوشى” .. إنتاجاته كلها مجانية .. ببلاش .. بلا مقابل تقريبا .. للأسف الشديد
فى بلادنا لايستطيع المثقفون أن يعيشوا من إبداعاتهم .. وقد أحزننى أحد كبار المثقفين عندما قال لى .. سمعت آخرة نكتة .. فابتسمت وقلت له أسمعنى .. ففاجأنى بقوله
.. مرة واحد مثقف قال عايز أعيش .. قالوا له مفيش

التعليقات