محمد الشاذلي يكتب: في ذكرى ميلاد محفوظ الـ 110

هي ذكرى ميلاد نجيب محفوظ الـ110 ونأسف أنه ليس بيننا رغم بقائه الشامخ في الواقع الثقافي المصري بإبداعاته المفتوحة والمعبرة عما عاشه، والعابرة لزمانه إلى وقتنا الراهن.

وكان محفوظ مشغولا بواقعه وبأحلامه وبالأيام القادمة.. وعشية القرن قال في رسالة أملاها عليَّ لنشرها في "مجلة الوسط" إن لدينا فرصة على الأقل خلال السنوات القليلة المقبلة لكي نصحح أخطاءنا، ونعد أنفسنا لنكون قومًا فعالين في عصرك ـ عزيزي القرن ـ وأيامك التي سوف تدهس الخاملين.

ولا يمكن فصل أدب محفوظ عن حياته، ليس لأنه استمد منها موضوعاته وشخوصه، ولكن لأن حياته كانت درسًا في الجدية والإخلاص والنشاط الدائم، لكاتب كان يرى الحياة قصيرة، رغم سنواته الخمس والتسعين، وأن علينا الاجتهاد في تنظيمها لكيلا يذهب الوقت سدي.

وأستطيع تقرير أن محفوظ لم يكن فقط مُعلما للوقت، وإنما صانعًا ماهرًا للذاكرة، الشخصية والجمعية، فدلت كل أعماله مع مراميها الأخرى على حقب زمنية مرت بنا وبأدق التفاصيل.

هو الذي ولد في عصر مضطرب، احتلال إنجليزي، حرب عالمية أولى، ثم ثورة 1919، ودستور 23، وسقوط دولة الخلافة العثمانية، وإعلان مصر ملكية دستورية، وفؤاد الأول ملك مصر والسودان، عصر ساخن فكريًا، مشكلة كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وأزمة "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، ثم رحيل سعد زغلول بينما محفوظ في سن السادسة عشرة، في تلك السن مات زعيمه أو الزعيم من وجهة نظر محفوظ إلى الأبد.

وكان محفوظ يريد تفسيرًا لكل ما جرى حوله وهو كثير، فكانت دراسته للفلسفة، ورغبته في استكمال دارسته مع إحدى البعثات الخارجية في فرنسا، وكان اسمه المركب (نجيب محفوظ) الذي أشتهر بعد ذلك، عقبة في طريق البعثة، ثم اكتشافه بعد ذلك أن الأدب يمكنه أن يفسر كل شيء.

والاحتفال بعيد ميلاده بالنسبة إلى الدوائر القريبة منه وأسرته من الأمور التي استجدت بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1988، هو استغرب الفكرة، وإن كان لم يرفضها، لكن الاحتفال العام بتاريخ ميلاده كان دائمًا مبادرات من الوسط الثقافي ومن بين أصدقائه الكتاب.

بينما حولت "الأهرام" بقيادة رئيس تحريرها محمد حسنين هيكل المناسبة إلى ما يشبه الأعياد القومية؛ فقد أقامت له عيد ميلاد مثيرًا لبلوغه الخمسين، ثم عيد ميلاد أكثر إثارة لبلوغه الستين، وحضرت أم كلثوم وكتاب مصر الكبار، إيمانًا من الصحيفة العريقة بقيمة محفوظ ومكانته الإبداعية.

نحن نمر أحيانًا على أشياء حميمة في عالم نجيب محفوظ الذي كان، نمر أمام متحفه في ميدان الأزهر، أو مسجده على الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية، نمر من أمام منزله الذي سكنه وأسرته الصغيرة قبل ستين عاما، في الطابق الأرضي من المنزل 172 شارع النيل في العجوزة، مغلقًا على ماض عريق، ولا نعرف ما بداخله الآن، فقصته رواية أخرى لم يكتبها، ونمر بكازينو قصر النيل، ومقهى "علي بابا" في ميدان التحرير والذي لم يعد موجودًا الآن.

ولا أظن أن نجيب محفوظ لا يقدر كتابته هو الذي أخلص لها طوال حياته، لكنه كان شديد التقدير للعلم، وذكر لنا أن سعادته بفوز الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل في الكيمياء، كانت أكثر من سعادته عندما فاز هو بجائزة نوبل في الأدب، ويتصل بذلك ما قاله في رسالته إلى القرن الجديد التي أملاها بعد أيام من تسلم زويل الجائزة: "إن أحلامنا نحن العرب ليست كئيبة، مع إننا لم نحقق منها القدر الكافي، لقد تطور العرب خلال القرن العشرين، ما في ذلك شك، ولكنه تطور منقوص بالقياس إلى القدرات البشرية والمالية التي كانت متاحة، وقد أثبت الفرد العربي - وهنا يحضرني الدكتور أحمد زويل - أنه إذا توافرت له الإمكانات فإنه قادر على تحقيق المعجزات، ولكن الدكتور زويل نجح في الولايات المتحدة ولولا بقاؤه هناك لما حقق إنجازه العلمي الباهر، إنني أتوجه برسالتي إليك ـ عزيزي القرن المقبل ـ ليقرأها العالم العربي

وأؤكد أننا لن يكون لنا كأمة أي مستقبل من دون الديمقراطية والعلم، لابد من ديمقراطية حقيقية وانتخابات حرة، والمواطن العربي ليس قاصرًا أو غير مؤهل ـ كما يدعي بعضهم ـ للتعامل مع هذه الديمقراطية".

لم تضع معركة الديمقراطية والعلم سلاحها رغم النكبات، ويظل شرطا محفوظ قائمين كمعادلة ناجزة في أي تطور مأمول في عالمنا العربي، وهذه المعادلة لم تكن عابرة بمناسبة عتبة القرن الجديد، وإنما تفكير أصيل لديه.

وقد كان ينشر آراءه في هذين المجالين في مقالاته بـ"الأهرام" قبل نوبل وبعدها، وكتب ذات مرة عندما أراد أن يضع قائمة بالأولويات عنده، فجاء بالتعليم أولا ثم البحث العلمي ثم الإدارة، وكتب: "أخيرًا أحب أن أقول إنه لا جدوى من إصلاح التعليم والبحث العلمي والإدارة إذا لم يقم التخطيط على أساس من ديمقراطية تؤصل الحرية واحترام حقوق الإنسان".
"عن الأهرام"

التعليقات